قراءة ت. س. إليوت باللغة العربية: حوار مع غريب إسكندر

قراءة ت. س. إليوت باللغة العربية: حوار مع غريب إسكندر

قراءة ت. س. إليوت باللغة العربية: حوار مع غريب إسكندر

ترجمة: سلمى هارلند*

أجرى هذا الحوار طغرل مِنده** في مجلة «آراب ليت» الأدبية

** طغرل مِنده: باحث مستقل يعيش في برلين حاصل على ماجستير الدراسات العربية من جامعة ليبزيج.

الترجمة خاصة بترجمان عن موقع Arablit quarterly وبإذن من الموقع.

تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها.


ما سبب الضجة التي أحدثتها قصيدة «الأرض الخراب» للشاعر الأمريكي ت. س. إليوت على ساحة الشعر العربي في منتصف القرن العشرين؟

تُرجمت أعمال ت. س. إليوت (1888-1965) أول ما ترجمت إلى اللغة العربية في مطلع أربعينيات القرن العشرين، وكان لهذا تأثير ملحوظ على العديد من المؤلفين العرب، ابتداءً من لويس عوض وصلاح عبد الصبور، ووصولًا لأدونيس.

يتناول غريب إسكندر، وهو شاعر عراقي مقيم في لندن ويكتب باللغة العربية، شعر ت. س. إليوت في كتابه الجديد «الشعر الإنجليزي والشعر العربي الحديث: الترجمة والحداثة» (English Poetry and Modern Arabic Verse: Translation and Modernity)، والمقرر صدوره في عام 2021 عن دار نشر آي. بي. توريس، ويحلل فيه ما كان لـ ت. س. إليوت ومؤلفين آخرين ناطقين بالإنجليزية من تأثير على الشعر العربي.

أجرت مجلة «آراب ليت» الأدبية (ArabLit) هذا الحوار مع غريب إسكندر حول قراءة ترجمات ت. س. إليوت باللغة العربية، وعما كان لإليوت من تأثير على المؤلفين العرب الذين تناولهم إسكندر في كتابه الجديد.

طغرل مِنده: هل تتذكر أول مرة قرأت فيها قصيدة «الأرض الخراب» لـ ت. س. إليوت؟

غريب إسكندر: لا أتذكر بالضبط، لكن أعتقد أنها كانت في نفس الوقت الذي بدأت فيه قراءة أعمال بدر شاكر السياب حينما كنت طالبًا في المرحلة الإعدادية؛ فلطالما اقترن اسماهما بدراسات الشعر العربي الحديث، والذي كان السياب أحد أهم رواده في بغداد (إلى جانب نازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي) في أواخر أربعينيات القرن العشرين.

وكثيرًا ما اقترن اسم قصيدة «أنشودة المطر»، أشهر أعمال السياب، بقصيدة «الأرض الخراب» لـ ت. س. إليوت، والتي تُرجِمَت إلى اللغة العربية حوالي 10 مرات مختلفة. يعكس هذا أوجه الشبه العديدة بين القصيدتين من حيث الآثار المدمرة التي خلفتها الحرب العالمية الأولى من ناحية، والظروف التي تحتم على العرب مجابهتها إثر الحرب العالمية الثانية، والمتمثلة في خسارة فلسطين، وما خلفه هذا من تأثير (ما يزال حيًا) في نفوس جميع العرب من ناحية أخرى. كذلك ثمة صدى محسوس في قصيدة ت. س. إليوت لما كابده الشعب العراقي تحت وطأة الحرب والديكتاتورية طوال عقود. منذ ذلك الحين، كلما رددت هذه الأبيات من قصيدة ت. س. إليوت، أتخيلها كما لو أنه قد كتبها عن العراق، مستبدلًا «رمال مارجيت» بـ«رمال العراق»:

«على رمال العراق»

لا أستطيع ربط

أي شيء بأي شيء.

الأظافر المتكسرة في الأيادي المتسخة.

شعبي شعبٌ ذليل، شعبُ لا يتطلع

إلى أي شيء.

طغرل مِنده: ما الذي شعرت به عندما قرأت القصائد التي تتناولها في دراستك باللغة الإنجليزية، قبل أن تقرأها ثانيةً باللغة العربية؟

غريب إسكندر: جميع القصائد التي تناولتها في دراستي ترجمها حداثيون عرب متأثرين بكتابات ت. س. إليوت، وكان صدى هذا جليًا في أعمالهم. وعلى الرغم من ذلك، كانت قصائدهم لم تزل متجذرة في الثقافة العربية، ونابعة من رحم الأزمات العربية. بذلك، وعلى الرغم من محلية المواضيع الشعرية التي انشغلوا بها، إلا أنهم استخدموا أساليب شعرية عالمية بشكل أساسي. لم يقتصر تأثير ت. س. إليوت على الحداثيين العرب وحسب، حيث بدأ الحداثيون على مستوى العالم أيضًا في استخدام أساليب شعرية «أجنبية» لكتابة نصوص «جديدة» وثرية. ومن المثير للاهتمام رؤية كيف وظف بدر شاكر السياب اللغة القرآنية في بعض المواضع في ترجمته لقصيدة «رحلة المجوس» لـ ت. س. إليوت.

في مقدمة سعدي يوسف لترجمة قصيدة «أغنية نفسي» لوالت ويتمان، ينتقد سعدي يوسف من يصفون ويتمان بـ «الشاعر الصوفي»، على الرغم من أن الأول استخدم لغة صوفية في ترجمته للقصيدة نفسها. من المثير للاهتمام بالطبع رؤية كيف من الممكن قراءة نفس النص الشعري بطرق متعددة، وإعادة خلقه باستخدام أساليب وقوالب شعرية مختلفة، لكن الأهم من ذلك هو ما يكمن وراء تلك الترجمات – أي، كيف تمكن الحداثيون العرب من إحداث ثورة شعرية حررت الشعر العربي من هيمنة قوالب تراثية تعود لحوالي 14 قرنًا مضى. لا يرجع هذا التغيير إلى تأثير ت. س. إليوت (وشعراء غربيين آخرين) على الساحة الأدبية العربية وحسب، بل وإلى تأثير الشباب من الحداثيين العرب كذلك. على سبيل المثال، كان لـ بدر شاكر السياب مقاربته الخاصة لأعمال إديث سيتويل الشعرية، خاصة قصيدة «المطر لا يزال يهطل»، حيث قام بإبدال موضوع «المطر» بموضوع شعري آخر خاص بالعراق. واليوم، لا يزال حضور شعر إديث سيتويل جليًا في الثقافة الشعرية العربية أكثر منه في الساحة الإنجليزية!

طغرل مِنده: ما السبب من وجهة نظرك وراء إعجاب الشعراء والمؤلفين العرب بشعر ت. س. إليوت، ولماذا اخترته لدراستك؟

غريب إسكندر: كما قلت سابقًا، لطالما كانت كتابات ت. س. إليوت حاضرة بقوة في الحداثة العربية. بدأ معظم الحداثيين العرب في تناول كتابات ت. س. إليوت في منتصف أربعينيات القرن العشرين حسبما أعتقد، وكان لويس عوض أولهم على ما يبدو. ففي عام 1946، طلب منه طه حسين كتابة بعض المقالات عن بعض كبار الكتاب الإنجليز كي ينشرها في مجلة «الكاتب المصري». وبالفعل، نشر لويس عوض مجموعة مقالات في تلك المجلة، وكان لمقاله عن إليوت على وجه الخصوص تأثير كبير على الشباب من الشعراء العرب أمثال بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس.

في عام 1958، ترجم أدونيس ويوسف الخال قصيدة «الأرض الخراب» ونشراها في مجلة «شعر» اللبنانية – ويذكرنا هذا التعاون بتعاون عزرا باوند مع ت. س. إليوت على القصيدة ذاتها. ثم في عام 1968، نشر لويس عوض ترجمته الخاصة في نفس المجلة. كان توفيق الصايغ قد نشر مقالًا في مجلة «الأدب» اللبنانية تحت عنوان «الشعر الإنجليزي المعاصر» في عام 1955، تناول فيها أهمية قصيدة «الأرض الخراب». وعلى الرغم من أن توفيق الصايغ كان قد ترجم نفس القصيدة هو الآخر، إلا أنه لم ينشرها أبدًا، ولم يعلم أحد بأمرها حتى اكتشفت أسرته نسخة مكتوبة بخط اليد بعد وفاته في عام 1970.

لسوء الحظ، لم تنشر ترجمة توفيق الصايغ لقصيدة «الأرض الخراب» حتى عام 2017. يقول توفيق الصايغ في الحاشية إنه بدأ ترجمة «الأرض الخراب» في بيروت في عام 1951، وأنهاها في كامبريدج في عام 1953. في عام 1957، ورد في العدد الثالث من مجلة «شعر» اللبنانية أن بدر شاكر السياب منصب على ترجمة القصيدة ذاتها، إلا أنه لم ينشرها أبدًا؛ عوضًا عن ذلك، نشر السياب ترجمته لقصيدة «رحلة المجوس». على أي حال، تشير هاتان المقاربتان لانشغال السياب برواد الشعر الإنجليزي في القرن العشرين. وقد ظهر تأثر بدر شاكر السياب بفكر لويس عوض في تضارب آراءه حيال ت. س. إليوت. كان السياب في بداية مسيرته المهنية، حينما كان عضوًا في الحزب الشيوعي العراقي، يشير إلى إليوت بوصفه «شاعرًا رجعيًا»، وهو نفس المصطلح الذي كان يستخدمه لويس عوض للإشارة إلى إليوت، متأثرًا بدوره بآراء كُتاب إنجليز يساريين أمثال س. د. لويس وجورج أورويل. تغيرت آراء السياب فيما بعد، بعدما ترك الحزب العراقي الشيوعي على ما يبدو، وبدأ يظهر إعجابه بكتابات إليوت من الناحيتين الأسلوبية والموضوعية. من المثير للدهشة أن سعدي يوسف استمر في إطلاق نفس الوصف على ت. س. إليوت، على الرغم من تأثره بمقاربة بدر شاكر السياب لـ ت. س. إليوت وعزرا باوند. بذلك لم يستفد كل الشعراء العرب من حداثة إليوت، حيث عجز من استفاد منهم بها عن تطبيقها بشكل عملي في أعمالهم الشعرية.

طغرل مِنده: متى بدأ اهتمامك بكتابة الشعر؟ وكيف أثرت ميولك الفنية على عملك الأكاديمي؟

غريب إسكندر: بدأت كتابة الشعر في سن صغيرة جدًا، ولم آخذ الأمر على محمل الجد حتى التحقت بجامعة بغداد لدراسة الأدب العربي؛ حينها وجدت أن دراساتي الأكاديمية ما هي إلا امتداد لتجاربي الشعرية. كما أوضحت في تصدير كتابي، كانت رسالتي المقدمة لنيل درجة الماجستير في عام 2008 هي أول تجربة لي مع الترجمة الشعرية، حيث قدمت فيها دراسة حول 8 ترجمات إنجليزية مختلفة لقصيدة «أنشودة المطر» لبدر شاكر السياب. أتاحت لي تلك التجربة التعرف أكثر على التفاعل البيني المتبادل بين القصيدة الأصلية وترجماتها من الناحيتين الإبداعية والثقافية.

جاءت محاولتي الثانية في عام 2013، حينما بعث لي «مهرجان ريل» دعوة لحضور ورشة عمل بعنوان «وُجد في الترجمة»، والتي قام فيها أربعة شعراء أسكتلنديين وأربعة شعراء عراقيين بترجمة أعمال بعضهم البعض. تولدت عن تلك «المقاربة» الحوارية لغة جديدة ثالثة؛ فلم تكن تلك الترجمات نتاج عملية ترجمة بحتة، بل تجلت فيها ثمرة تعاون إبداعي خلاق بين الشعراء-المترجمين. ساعدت تلك المقاربة على إشراك جميع الشعراء المشاركين في الورشة في عملية الترجمة، بمن فيهم من لم يكن لديه أي خبرة مسبقة في الترجمة. نشر نتاج ذلك المشروع في كتاب ثنائي اللغة بعنوان «غرفةٌ تنتظر: قصائد من العراق والمملكة المتحدة» في عام 2014. وقد استمتعت على وجه الخصوص بالتعاون مع الشاعر الأسكتلندي جون جلينداي في كتابي المعنون «أفعى كَلكَامش وقصائد أخرى» الصادر عن دار نشر جامعة سيراكوز في عام 2016، وقد حاز الكتاب على عدد من الجوائز.

طغرل مِنده: مَنْ مِنَ الشعراء كان له التأثير الأكبر عليك في بداياتك الشعرية؟

غريب إسكندر: تأثرت كثيرًا بأعمال بدر شاكر السياب وأدونيس على وجه الخصوص، إلى جانب بعض الشعراء الكلاسيكيين أمثال أبي نواس، والمتنبي، وأبي تمام، والمعري. أما على مستوى الشعر العالمي، فأحب أعمال والت ويتمان، وت. س. إليوت، وفيرناندو بيسوا، وشارل بودلير، وفيديريكو جارثيا لوركا؛ حيث كان لهم تأثير عظيم على الشعر العربي الحديث. وقد قدمت ديريك والكوت للقراء العرب في كتاب «هنا يكمن الفراغ»، وأنا منشغل حاليًا بتيد هيوز. كذلك لطالما تأثرت بشعراء الصوفية أمثال ابن عربي، والنفري، وحافظ.

طغرل مِنده: ما مدى تأثير أعمال ت. س. إليوت ووالت ويتمان على الشعر العربي الحديث في رأيك؟

غريب إسكندر: كان لكلاهما دور حيوي، خاصة إليوت؛ فلا يمكننا الحديث عن الحداثة في الثقافة العربية (أو حتى على مستوى العالم) بدون ذكر إليوت. لقد أمد إليوت الحداثيين العرب بالأدوات اللازمة لإعادة استكشاف تراثهم في المقام الأول، ومن ثم الاستفادة من الثقافات الأخرى. أما ويتمان، فقد قاربه الشعراء العرب في مطلع القرن العشرين، إلا أنهم تجاهلوا الظروف التي تولدت عنها قصيدة «أغنية نفسي» –أي الحرب الأهلية الأمريكية (1861 – 1865)– مما أدى إلى إساءة فهم مغزاها. وفي الوقت الذي تمكن فيه الحداثيون العرب أخيرًا من ترجمة أعمال ويتمان في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت الثقافة العربية قد تأثرت بالفعل بأعمال إليوت بعد أن ثبتت مكانته كرائد الحداثة الشعرية على مستوى العالم. لذلك اكتسحت أفكاره –أكثر من أي أديب آخر– الساحة الأدبية العربية في ذلك الوقت.

طغرل مِنده: هل كتابك الجديد، «الشعر الإنجليزي والشعر العربي الحديث: الترجمة والحداثة»، جزء من مشروعٍ أكبر؟

غريب إسكندر: نعم، هو جزء من مشروع أكبر فعلًا، ألا وهو خلق حلقة وصل بين أعمالي الشعرية والشعر العالمي من خلال الترجمة، كما أنه جزء من مشروع شخصي لجعل تجربة العيش في المنفى مساحة لترجمة «الأنا» و«الآخر». لا يزال اهتمامي منصبًا على الشعر والجماليات بشكل أساسي، إلا أنني استمتعت أيضًا بجمع كل ما توصلت إليه حول الترجمة الشعرية في دراسة أكاديمية، بغض النظر عن اختلافها عن أعمالي وتجاربي السابقة.

طغرل مِنده: هل تسبب هذا الكتاب في تغير رؤيتك للشعر الحديث، سواء الإنجليزي أو العربي؟

غريب إسكندر: حينما شرعت في هذه الدراسة، كنت على دراية تامة بمركزية الترجمة في الشعر العالمي؛ فمعظم الشعراء الأكثر تأثيرًا من المترجمين. أتاح لي هذا البحث استكشاف العلاقة الوطيدة التي تجمع بين الشعر، والحداثة، والترجمة: أولًا، وجدت أن الترجمات العربية التي ركزت عليها في دراستي كان لها «مركزية» في المنظومة التي تنتمي إليها، إلى جانب «مركزيتها» في الثقافة العربية. كان الشعراء العرب المشتغلون بالترجمة على دراية تامة بالمكانة المصاحبة لاقتران اسمهم بشعراء حداثيين عالميين. ثانيًا، مكنهم ذلك من اعتماد ما لم يكن معتمدًا وقتها في منظومتهم الأدبية. ثالثًا، مكنت تلك الترجمات الحداثيين العرب من التحرر من الممارسات الأدبية العربية التقليدية واستكشاف آفاق جديدة.

رابعًا، استخدم الحداثيون العرب هذه الترجمات لنقد كل من الثقافة الأم والثقافة المضيفة لتلك القصائد، حيث اتخذوا من ترجماتهم لشعراء عالميين آخرين مساحةً –أو «قناعًا متقن الصنع» كما يقول عزرا باوند– للتعبير عن أنفسهم، فنتج عن تلك الترجمات ثقافة نقدية إبداعية جديدة.

خامسًا، أثارت تجربة الترجمة نفسها، بكل ما فيها من دلالات سياسية وجمالية، رؤية اجتماعية ثقافية عميقة للنص الأدبي، بحيث أصبحت الترجمة وسيلة لاستجواب الثقافة الوافدة من الناحيتين السياسية والفنية بشكل صريح.

اترك تعليقاً