يتحدث هايدجر عن «الاحتياطي الدائم» ضمن تفسيره لماهية التكنولوجيا في مقاله المذكور، مع إشارة مهمة منه إلى أن «ماهية التكنولوجيا لا يمكن أن تكون شيئًا تكنولوجيًا».
يعتبر مقال «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا» مقالًا مركزيًا ضمن أعمال الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، ورغم أن مقالات هايدجر تعتبر أيسر من كتابه الأبرز «الوجود والزمان»، إلا أنها لا تخلو من الصعوبات التي تجعل فلسفة هايدجر كلها عسيرة، وذلك متحقق بغض النظر عن اللغة التي تقرأها بها، حتى الألمانية نفسها.
وتعود الصعوبة على الأغلب إلى أن هايدجر يستخدم مصطلحات تخصه هو، سواء كانت هذه المصطلحات من اشتقاقه، أو يستعين بمصطلحات معروفة سابقًا لكنه يستخدمها بالطريقة التي تناسب فلسفته.
ومن هذه المصطلحات ما نتحدث عنه في مدخلنا هنا، وهو مصطلح «الاحتياطي»، الذي يعتبر أساسيًا في فهم مقاله «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا».
يستخدم هايدجر الكلمة الألمانية Bestand، وهي تُترجم إلى الإنجليزية بـ Stock مخزون، أو reserve احتياطي، أو store مخزن. ولكن الكلمة أيضًا تشتمل على معنى الاستمرارية continued existence, permanence.
في المعجم الألماني العربي «جوتس شراجله» ستجد معانِ شبيهة، ستجد المعنى الأول: مخزون، البضائع الموجودة في المخزن. وستجد المعنى الثاني: دوام، بقاء، قيام، استمرار. (Schregle, P189)
ولكن كما ذكرنا، هايدجر يستخدم اللغة بالطريقة التي تخصه.
في ترجمة وليام لافيت الإنجليزية للمقال، يستخدم المترجم standing-reserve الاحتياطي الدائم، كترجمة للمصطلح (Heidegger, ××)، وهي الترجمة الثابتة أيضًا في قاموس هايدجر لدانييل دالستروم (Dahlstrom, P169). أما في العربية فقد تنوعت الترجمات بين الاحتياطي والرصيد والأساس والمخزون.
لكن لنحاول أن نفهم في البداية ما يقصده هايدجر بالمصطلح.
الاحتياطي الدائم
يتحدث هايدجر عن «الاحتياطي الدائم» ضمن تفسيره لماهية التكنولوجيا في مقاله المذكور، مع إشارة مهمة منه إلى أن «ماهية التكنولوجيا لا يمكن أن تكون شيئًا تكنولوجيًا». (Heidegger, P35)
يتحدث عن التكنولوجيا باعتبارها كشفًا، و«الكشف الحاكم في شتى ضروب التكنولوجيا الحديثة يتخذ طابع العدوان، وهو عدوان بمعنى الاستخراج لشيء بالقوة، وهو تحّدٍ يتخذ صورة إطلاق الطاقة الخبيئة في الطبيعة، وما يُطلق منه يتحول، وما يتحول منه يُختزَن، وما يُختزَن منه يوزَّع بدوره، وما يوُزَّع منه يجري تبادله بشكل يتجدد إلى الأبد». (عناني، صـ 132)
فعل التخزين واستدعاء هذا الخزين يسميه هايدجر «الاحتياطي الدائم». ويضرب مثلًا هنا بالمزارع، حيث كان في الماضي يضع البذور ويترك الأرض تنمو، ولكن في الزمن الحديث يحدث نوع من «إيقاف الطبيعة» لتحقيق آلية بعينها، وبهذه الآلية تُخزَّن موارد الطبيعة وتُستدعى.
والإيقاف والتخزين والاستدعاء لا يقتصر على تعامل التكنولوجيا مع الموارد الطبيعية، بل يمتد إلى الإنسان نفسه، الذي تحول إلى «مورد بشري» أي «احتياطي دائم»: «حارس الغابة الذي يقيس في الغابة الخشب الذي تم قطعه، والذي يشق مثل جده بنفس الكيفية وبنفس طرق الغابة، هو اليوم مستحضر من قبل صناعة استغلال الخشب سواء أكان على علم بذلك أم لا، إنه مستحضر في إمكانية استحضار السليلوز الذي يستثار بدوره من قبل الحاجة إلى الورق الذي يوزع على الجرائد والمجلات المصورة، هذه توقف الرأي العام وتدفعه لالتهام المطبوعات حتى يصبح قابلًا للاستحضار من أجل إعداد مستحضر للرأي». (هايدجر، صـ 60، 61)
ولكن وسط ذلك لا يمكن أن يكون الإنسان احتياطيًا أو رصيدًا محضًا كما هو الحال مع موارد الطبيعة.
ومن هنا ينطلق هايدجر إلى تعامل الإنسان مع كيفية الكشف، والانطلاق في التفكير عن ماهية التكنولوجيا ودور الإنسان فيها.
احتياطي أم مخزون
تنوعت ترجمة مصطلح bestand أو standing-reserve في الثقافة العربية.
لجأ محمد سبيلا وبعد الهادي مفتاح إلى ترجمتها بـ «الأساس» أو «المخزون»: «هذا الوضع الثابت ندعوه الأساس أو المخزون Bestand-fonds. تعني كلمة الأساس هنا أكثر من المخزون الاحتياطي stock والأشياء الأكثر ضرورة وأساسية». (هايدجر، صـ 59). استعان المترجمان أكثر من مرة باللفظين معًا «الأساس أو المخزون» وفي بعض الأحيان اكتفيا بـ «المخزون» فحسب.
في حالة ترجمة إسماعيل المصدق، يلجأ المترجم إلى تعبير «الرصيد»، ويكتب في مقدمته للترجمة: «يتميز الكائن الذي ينكشف في الاستحضار بأنه مستحضَر، فالكائن المستحضَر يستمد قوامه، أي كيفية قيامه stand انطلاقًا من الاستحضار das Bestellen، لذلك يطلق عليه هايدجر الرصيد der Bestand. هذه الكلمة لها في اللغة الألمانية دلالات متعددة من ضمنها المخزون أو الاحتياطي أو الرصيد المتوفر من مادة أو سلعة ما، أي الذي يقوم رهن الإشارة أو حتى الطلب». (هايدجر 2، صـ 158)
ويشير المصدق إلى وجود الكلمة في الألمانية، وإن كان هايدجر يستعين بها ليبرز علاقته بالاستحضار: «الكائن الذي تكشفه التقنية الحديثة يستمد كيفية قيامه Stand من الاستحضار Be-stellen. لهذا فهو يتحدد أنطولوجيًا كـ Be-stand». (هايدجر، صـ 156)
ويشرح المصدق المصطلح بشكل أكبر في هامش: «ينبغي فهم الرصيد حسب هايدجر لا بمعنى المخزون أو الاحتياطي المتوفر من مادة أو سلعة معينة، بل بمعنى أنطولوجي، أي ككيفية لكون الكائن في عصر سيطرة ماهية التقنية». (هايدجر 2، صـ 201)
ولكن يمكن أن نستشعر هنا أن المصدق لم يعنِ نفي أو عدم دقة كلمة الاحتياطي العربية، هو فقط يحاول أن يفسِّر المعنى الاصطلاحي لـ Bestand.
لم يترجم محمد عناني المقال كاملًا، ولكنه ترجم أجزاء منه، وفيها ترجم مصطلح Bestand بـ «الاحتياطي»، إذ يترجم من المقال قائلًا: «كل ما يتلقى الأوامر بهذا الأسلوب له موقعه ومكانته. ونحن نسميه (الاحتياطي الدائم). وهذه الكلمة تعبر عن معنى أكبر وله طابع جوهري أكبر من (المخزون)». (عناني، صـ 132)
ولكن عناني مثل سبيلا ومفتاح، وربما أيضًا مثل المصدق، لم يقدم تفسيرًا لاختيار هذه الترجمة.
اختيار المترجم
مفهوم «الاحتياطي» مثل كل المفاهيم عند هايدجر، مفهوم متشابك ولا يمكن فهمه دون أن تطلع على الصورة العامة لفلسفته، وانعكس ذلك على الترجمات العربية لمقال «السؤال المتعلق بالتكنولوجيا»، إذ تُرجِم المفهوم بثلاث أشكال مختلفة على الأقل.
رأينا أن نلجأ إلى استخدام لفظ «الاحتياطي»، فهو اللفظ الأيسر والمفهوم بشكل أكبر بين الألفاظ المستخدمة، وسوف يسهل معه استخدام تعبير «استدعاء الاحتياطي» الذي يألفه القارئ العام، كما أنه سيردد صدى فكرة الجاهزية المهمة أيضًا لفهم المصطلح الهايدجري.
ولكن لنضع في الاعتبار أن استخدام المصطلح الهايدجري في كل الأحوال سيحتاج إلى هامش للتفسير، لأن استخدام هذا التعبير ضمن فلسفته يختلف عن استخدامه في اللغة العامة، وهذا ينطبق على الألمانية نفسها، إذ احتاج هايدجر نفسه أن يشرح ما الذي يقصده بـ Bestand أثناء كتابه مقاله.
المصادر
– Heidegger, M. (1977). The question concerning technology. Translated and with an Introduction by William Lovitt. Garland Publishing, INC
– عناني، محمد. (2023). مصطلحات الفلسفة الوجودية عند مارتن هايدجر: دراسة ومعجم، مصر: مؤسسة هنداوي للنشر والتوزيع.
– هايدجر، مارتن. (1995). التقنية، الحقيقة، الوجود، (ترجمة عبد الهادي مفتاح، محمد سبيلا)، الطبعة الأولى، بيروت: المركز الثقافي العربي.(1954)
– هايدجر، مارتن. (2003). كتابات أساسية الجزء الثاني، (ترجمة إسماعيل المصدق)، الطبعة الأولى، مصر: المجلس الأعلى للثقافة.
-Schregle, G., & Abu l-Fadl, F. (1974). Deutsch-arabisches Wörterbuch. Bilingual edition. Harrassowitz.
-Dahlstrom, D. O. (2013). The Heidegger Dictionary. First Tion ed. edition (February 7, 2013). Bloomsbury Publishing.