كيف تترجم | الأدائية Performativity

كيف تترجم | الأدائية Performativity

لدينا الآن ترجمتان رئيسيتان للمفهوم، واحدة للمسكيني، إذ يترجم performativity إنجازية، وفي المقابل تُترجَم في كل مكان آخر تقريبًا بـ “الأدائية”.

إذا بحثت عن المعنى المعجمي لكلمة Performativity، وتحديدًا من قاموس مريام ويبستر، ستجد الإشارة إلى حالة «الأداء»، يضيف القاموس أن عادة ما تستخدم الكلمة بشكل رافض للتصرف: حالة فعل أو صناعة شيء بغرض العرض (الظهور)، كأن يعزز المرء صورته أو يقدم انطباعًا إيجابيًا عن نفسه للآخرين.

في هذه الحالة يمكن أن يبحث المترجم عن تعبيرات عربية مثل التظاهر أو التصنع أو الادعاء، كلمة «أداء» أيضًا قد تستخدم، ولكنها تردد صدى الكلمات الأولى في العامية أكثر مما ترددها في العربية الفصحى.

الخيارات في الترجمة المعجمية للكلمة سهلة، ولكن التحدي يأتي في حالة الترجمة الاصطلاحية، إذ يستخدم مصطلح Performativity في دراسات الجندر  Gender Performativity، وهنا يحتاج المترجم أن يتخذ خطوة أبعد من الترجمة المعجمية، خاصة لأن الحس (الرافض) الموجود فيها قد يؤدي عكس المراد من المصطلح في السياق الجندري، أو على الأقل سيضفي حكمًا أخلاقيًا غير مطلوب فيه.

الأدائية الجندرية

تعزز مفهوم «الأدائية الجندرية» لدى الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، تحديدًا في كتابها «قلق الجندر». ونستعين هنا بمقدمتها للطبعة الثانية للكتاب، الذي تقدم فيه شيئًا أقرب للتعريف للأدائية الجندرية، وذلك بعد أن تشرح أن آراءها عن الأدائية تغيرت، ويعود هذا إلى سببين، هو النقد الذي تلقته على كتابها، وإلى أن الكثيرين استخدموا المفهوم وفقًا لتفسيراتهم الخاصة (وهذه النقطة الأخيرة مهمة عند ترجمة المفهوم).

تقول بتلر في مقدمتها، ونستعين هنا بترجمة فتحي المسكيني: «تدور الإنجازية (الأدائية)، بذلك، حول هذه الاستعارة العكسية (metalepsis)، نعني الطريقة التي بها يؤدي انتظار ماهية مجندَرة إلى إنتاج ما كان يضعه باعتباره شيئًا خارجًا عنه هو ذاته. وفي المقام الثاني، فإن الإنجازية (الأدائية) هي ليست فعلًا مفردًا، بل فعل معاودة وطقس، من شأنه أن يحقق مفاعيله عبر تطبيعه في سياق جسد، مفهوم في شطر منه بوصفه مدة زمنية مستمرة ثقافيًا».  (يترجم المسكيني performativity بالإنجازية، و«الأدائية» في الاقتباس من إضافتنا). (بتلر 2022، صـ 37، 38)

وتضيف: «إن الرأي بأن الجندر هو شيء إنجازي (أدائي) (performative) إنما كان الغرض منه أن نبين أن ما نعتبره ماهية باطنية للجندر هو شيء مصنوع من خلال مجموعة مستمرة من الأفعال، تم طرحها عبر عمل أسلوبي (stylization) مجندر على الجسد. وبهذه الطريقة، فإن ذلك قد بيَّن أن ما نعتبره سمة ’ باطنية’ لأنفسنا هو شيء نترقبه وننتجه عبر أفعال جسدية معينة». (بتلر 2022، صـ 38).

نستخرج من النص السابق ملاحظتين، الأولى هو أننا نتعامل مع مفهوم لا تصلح معه الترجمة المعجمية، لأننا لن نستطيع أن نطلق على الأدائية بهذه الطريقة معاني التصنع والتظاهر التي تحمل حكمًا أخلاقيًا. والملاحظة الثانية هي أن فتحي المسكيني في ترجمته للكتاب ترجم Performativity بإنجازية وليس أدائية.

إنجازية أم أدائية؟

لدينا الآن ترجمتان رئيسيتان للمفهوم، واحدة للمسكيني، إذ يترجم performativity إنجازية، وفي المقابل تُترجَم في كل مكان آخر تقريبًا بـ «الأدائية».

المسكيني نفسه أحيانًا ما يبادل بين المصطلحين إذ يقول «الأدائي والإنجازي». (بتلر 2022، صـ 18) ولكنه يعود ويحرص على التمييز بين الأدائية والإنجازية: «… لكنا قد ربطنا الصلة للتو مع أخطر المفاهيم التي بنت عليها بتلر كتاب قلق الجندر، نعني مفهوم (الأداء) performance ومفهوم (الإنجازية) performativity». (بتلر 2022، صـ 22، 23). أي التمييز بين البعد الأدائي” في الجندر والبعد الإنجازي” في الجندر».

في كتاب آخر تُرجِم لجوديث بتلر وهو «الذات تصف نفسها»، لا يستقر المترجم فلاح رحيم على ترجمة، إذ يترجم جملة “a performative and non-narrative act” (Butler 2005, p66) ، بـ. «… تمثيلي ولاسردي…». (بتلر 2014 صـ 131)

وفي جملة: “Just as there is a performative and allocutory action that this ‘‘I’’ performs…” يترجمها بـ «كما أن فعلًا تمثيليًا وخطابيًا تؤديه هذه (الأنا)». (بتلر 2014، صـ 131)

ولكن رحيم يعود مرة أخرى للأدائية في هذه الجملة: “Thus a certain performative production of the subject within established public conventions is required of the confessing subject and constitutes the aim of confession itself.” (Butler2005, P113)

«لذلك بكون مطلوبًا من الذات المعترفة بالخطأ أن تنتج نفسها أدائيًا داخل مواضعات عامة مكرسة ويكون هذا الإنتاج الأدائي غاية الاعتراف نفسه». (بتلر 2014، صـ 198)

بالتالي تقديرنا أن اختيار لفظ «تمثيلي» في الفقرتين الأوليين كان يفتقد الدراية الكافية.

في ترجمة نور حريري لكتاب «الحياة النفسية للسلطة»، تلتزم المترجمة بلفظ الأدائية:

«… أن يكون هذا النمط في حد قاته (انقلابًا/ تحولًا) turn هو أمر مذهل بلاغيًا وأدائيًا…». (بتلر2022، صـ 12)

وهو ما تحافظ عليه في الكتاب كله.

وفي ترجمة ثائر ديب لمقال بتلر Performative acts and gender constitution »الأفعال الأدائية وتكوين الجندر» (بتلر 2018، p127)، يتضح تفضيل الترجمة من العنوان.

اختيار المترجم

من الواضح أن ترجمة الإنجازية لدى المسكيني لم تلق تداولًا كافيًا، فإذا بحثت عن الدراسات والمقالات المنشورة على الإنترنت، لن تجد سوى «الأدائية». أما الترجمة بـ «التمثيل» فتعتبر خاطئة ويمكن أن تضلل القارئ.

تقديرنا أن يستخدم المترجم ترجمة «الأدائية» كترجمة لـ performativity لأنها يمكن أن تحمل داخلها المعاني المقصودة في مفهوم بتلر، بالإضافة إلى سهولة تصريفها المقابل لتصريفات الفعل الإنجليزي perform. في المقابل ستربك «الإنجازية» القارئ، خاصة لأن كلمة «الإنجاز» العربية تحيل إلى معنى مختلف تمامًا، وستكون بحاجة طوال الوقت إلى تبرير اختيارك في مقدمة أو هامش.

هذا الباب يوضح طبيعة ترجمة أحد المصطلحات في العربية، ولكن المتن فيه ليس باتًا أو نهائيًا، بل مفتوح للنقاش والمداخلات وقابل للتعديل من المترجمين والقراء.

مصادر

بتلر، جوديث، قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية، ترجمة: فتحي المسكيني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022

بتلر، جوديث. الذات تصف نفسها. ترجمة: فلاح رحيم. التنوير. 2014

بتلر، جوديث. الحياة النفسية للسلطة: نظريات في الإخضاع. ترجمة: نور حريري. دار نينوى. 2021

بتلر، جوديث. الأفعال الأدائية وتكوين الجندر: مقالة في الظاهراتية والنظرية النسوية. مجلة عمران، العدد 25/7، 2018

Butler, Judith. Giving an account of oneself. Fordham University Press. 2005

“Performativity.” Merriam-Webster’s Collegiate Dictionary, Merriam-Webster, https://unabridged.merriam-webster.com/collegiate/performativity. Accessed 12 Feb. 2024.

This Post Has One Comment

  1. Fadi Awad ELSAID

    الفكرة حلوة جدًا يا أمير. بالتوفيق.
    تحليلك كمان رائع.
    أظن فيه نقطة مهمة تخص التفريق بين مسارات المفهوم بين الأدائية والإنجازية. تقديري إن الناس اللي المعتادة على استخدام المصطلح في حقل اللغويات (سواء بمعناه عند بنفنيست أو لاحقا عند أوستن) بيلقطوا أكتر معنى الإنجازية في الكلمة. وأعتقد اختيار فتحي المسكيني لهذه الترجمة مبني على ترجمتها قبله في كتاب أوستن (العنوان العربي: نظرية أفعال الكلام العامة: كيف ننجز الأشياء بالكلام) اللي ترجمه في تونس عبد القادر قينيني سنة ١٩٩١.

    مع تطور المفهوم من نقد دريدا لأوستن ثم النقلة الكبيرة اللي حصلت للمفهوم مع ترجمات دريدا للإنجليزي، ومع تأثيره الكبير في خطاب بتلر، ومع ارتباط دراسات الجندر بدراسات الأداء الفني، بقى “الأداء” هو المعنى الحاضر أكتر في الترجمة.

    فيه شيء جميل إن الكلمة المترجَمة performativity بتدّي المعنيين وبتستخدم في السياقين فبتخلق الربط بين العالَمين الواسعين في اللغات الأوروبية اللي بتستخدم الصيغة دي. وده اللي للأسف مش متحقق لا في الإنجازية ولا في الأدائية بالعربي.

    يمكن ده اللي خللى أخونا بتاع “التمثيل” ينحو هذا المنحى محاولا الجمع بين العالمين دول من استخدامات الكلمة. بس للأسف وصل في النتيجة لشيء مضلل جدًا مش بس غلط. باعتبار إن التمثيل هو الترجمة المعتادة ل representation. وده بالظبط هو النقيض المفهومي للفكرة الأصلية لperformativity في النظرية اللغوية.
    وألف شكر إنك فتحت الحوار في الموضوع ده.

اترك تعليقاً