مارك بوليزوتي: مقتطف من مقدمة كتاب «تعاطفًا مع الخائن: مانيفستو للترجمة»

مارك بوليزوتي: مقتطف من مقدمة كتاب «تعاطفًا مع الخائن: مانيفستو للترجمة»


مقتطف من مقدمة كتاب «تعاطفًا مع الخائن: مانيفستو للترجمة» لمارك بوليزوتي*

صدر الكتاب عن إم. آي. تي. برس عام 2018 ونُشر المقتطف على مدونة مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية

*ترجم مارك بوليزوتي أكثر من خمسين كتابًا، من بينهم أعمالاً لباتريك مونديانو وجوستاف فلوبير ورايموند روسيل ومارجريت دوراس وبول فيريليو. وهو ناشر ورئيس تحرير جريدة متحف المتروبوليتان للفنون، كما ألف كتاب «ثورة العقل: حياة أندريه بريتون» وكتب أخرى. يقدم مارك في كتاب «تعاطفًا مع الخائن» دليلاً وبيانًا للترجمة يدعو فيه القراء لاعتبار المترجم بصفته الشريك المبدع للمؤلف وليس خائنًا.

ترجمة: إسراء أمان، إسلام حسين، حسين الحاج، سحر ناصر، رنيم محمد، هالة صلاح

ترجم هذا المقتطف ضمن أعمال الدورة السادسة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2020.

الترجمة خاصة بموقع ترجمان وسيلاس اﻹسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

*

لطالما كان التساؤل حول إمكانية الترجمة من عدمها ولأي درجة، وكم من المعانى يُفقد، أو حتى مجرد التساؤل عما يعنيه ذلك الفقد، موضع اختبار للمترجمين والمهتمين بالترجمة عمليًا منذ فجر اللغة الإنسانية، أو على الأقل منذ أن لاحظ البشر أن لديهم أكثر من لغة تحت تصرفهم. عبر السنوات، حط بعض المترجمين وكذلك العديد من الباحثين من قدر الترجمة بوصفها عملًا لا طائل منه، يشهد على ذلك خطابهم الانهزامي الذي لا يستطيعون التخلص منه عند التعليق على الترجمة. ومع ذلك القافلة تسير، وبالطبع تظل الترجمة ممكنة، فهناك ترجمات جديدة تظهر كل يوم، في جميع أنواع السياقات. لاحظ أومبرتو إيكو ذات مرة أن كل نظرية رشيدة وصارمة عن اللغة، توضح لنا أن الترجمة المتقنة ما هي إلا حلم مستحيل، وعلى الرغم من ذلك يواصل الناس الترجمة.

وبناءً على ما فات، سيكون ضربًا من الخيال ادعاء أن القارئ لترجمة ما يعايش بصدق العمل الأصلي، أو أنه بقراءة أي ترجمة لا نجد أي اختلاف بينها وبين النص الأصلي، وأقصد اختلاف وليس الفقد. يتعلق صلب الموضوع بتصورنا عما إذا كانت ترجمة ما نتاجًا عمليًا أم مثالًا أعلى صعب المنال. في حال اتبعنا التصور الأخير، فالأخطاء الحتمية لنشاط الترجمة والملازمة لها في الواقع ستجعل المجهود بأكمله يبدو تافهًا (لكن ألا نستطيع قول نفس الشيء عن أي مقالة؟). يذكر الفيلسوف الأسباني أورتيجا إي جاسيت أنه بالرغم من أن الترجمة بلا شك مهمة طوباوية إلا أنها كذلك فقط لأن كل ما يفعله الإنسان طوباويًا بدوره. متمنيًا حل هذه المعضلة، يوصي الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بالبلوغ إلى مرحلة التقبل، ويشبه هذا صراحةً بفعل الحداد، بالإضافة إلى التخلي عن نموذج الترجمة المثالية مرة واحدة وللأبد.

أثناء ترجمتي لباتريك موديانو، الذي يتمتع بأسلوب السهل الممتنع، أحاول أن أمتص حساسيته واستيعاب حبكته وبنية شخصياته، واختيار الجمل وإيقاعها  -أي كل العناصر التي يخلق بها موديانو نصه- وهذا لكي أقدر أن أعكس إلى القارئ الإنجليزي ما يخوضه القارئ الفرنسي بالظبط. هذا طبعًا حلم مستحيل، لسبب واحد أن اللغات كما نعرف ليست مجموعة من التعريفات والقواعد النحوية، لكنها محددة بمجموعة من العوامل الأخرى كالتاريخ والثقافة والاستخدام، بجانب التقاليد الأدبية والسياسية والصدفة وأشياء تافهة مثل فضائح المشاهير. تؤدي تلك العوامل إلى تشكيل كلمات وجمل تعكسها وتظهرها ويصبح لها معناها الخاص الذي يتطور بمرور الوقت. لطالما كانت التبادل بين اللغة والثقافة، أنماط التفكير واللغة، الإدراك واللغة، الهوية القومية واللغة، من المحاور الاساسية في النظرية اللغوية لقرون من هردر إلى هومبولت وكولردج إلى سابير وفيتجنشتاين إلى وورف. أن نذكر أنفسنا بأن الأدب القومي تشكل فيما هو عليه الآن من نمط وجوهر باللغة المحيطة به تكرار لما هو بديهي. كتب جورج شتاينر «سواء بوعي أو بدونه، يعتمد أي تواصل إنساني على نسيج معقد ومقسم، الذي من الممكن تشبيهه بنبات مغروس بعمق وخفاء، أو بجبل جليدي مغمور تحت المياه».

لسبب آخر، ولكي نتعمق أكثر في تلك النقطة دعونا نقول إن النص المترجم ما هو إلا نص تشاركي،  ليس مطابقًا للنص الأصلي وإنما تأويل له، قراءة كاتب ثانِ لجمل الكاتب الأول وإعادة خلقها، وبعبارة أخرى، عملية غير موضوعية. لهذا السبب فأنا عندما أتحدث عن قُراء موديانو الإنجليز الآن فأنا أقصد قرائنا، قراؤه وقرائي (وفي حالات كثيرة يظهر في المزيج كاتب ثالث وهو المحرر، الذي يراجع عمل المترجم ويعدل طريقة العرض بما يتناسب مع اللغة المستهدفة). ورغم كرهي للاعتراف بذلك، لكني أعرف أن ترجمتي لموديانو ليست «موديانو» بحتة، مثلها كمثل نسخة باربرا رايت، أو نسخة چوانا كلمارتين، أو نسخة داميون سيرلس، أو أي مترجم جرب ولو بشكل بسيط ترجمة أي كتاب من كتابات موديانو. وسواء وفقنا في ذلك أم لا، فجميعنا أثناء محاولتنا لنقل صوت موديانو للإنجليزية، تخلل في هذا الصوت نبراتنا الخاصة لا إراديًا.

يمكن القول إن ذلك التوازن المتغير باستمرار بين الحقيقة الموضوعية (النص المراد للترجمة) والتأويل الذاتي (النسخة المترجمة منه) يفسر شدة الاعتقاد بأن الترجمة مستحيلة في جوهرها، حيث أنه يرتكز على تصور للغة البشرية يعتبر الكلام مجرد ناقل للمعلومات، أو كما يصفه ديفيد بيلوس، «رغبة في اﻹيمان بأن الكلمات ما هي إلا أسماء اﻷشياء في النهاية (رغم كل اﻷدلة المخالفة)». وكما يلاحظ بيلوس أن هذا التصور إلى سفر التكوين، حيث يشرع آدم في تسمية «كل كائن حي»، مما يدعو إلى التساؤل عن الطريقة التي أطلق بها آدم أسماء على درجات من اللون اﻷزرق مثل النيلي أو السماوي التي تلوح في آفاق باريس عند الغسق، أو درجات الشعور بالكآبة مثل اﻷسى والحزن التي يمكن أن تداهمك في تلك الساعة. كما أنها لا تفسر حقيقة أن حتى الأسماء التي يفترض وضوحها مثل كلمة كلب لديها رنين مختلف في ثقافات مختلفة، حتى لو خصت نفس السلالات، وأخيرًا، فهي تغفل حقيقة أن اختياري كمترجم في ترجمة كلمة كلب الفرنسية chien إلى كلمات إنجليزية مثل dog أو hound أو cur أو pooch أو canine أو mutt سيغير الإحساس بالعبارة اﻹنجليزية، وأن أحد مهماته هي تحديد أيًا من الخيارات اﻷكثر ملائمة للسياق المعطى. ليست اللغة كلها عبارة عن تصنيف وتسمية، فعادة ما تلوح معانيها الحقيقية في المساحات بين اﻷلفاظ، وفي الحركة التي ينظمها ترتيب معين للكلمات، وترابطها واﻹحالات الخفية. هذا ما يفعله اﻷدب في أفضل الحالات، وهذا يمكن أن تفعله الترجمة أيضًا.

ربما يقع الاعتقاد باستحالة الترجمة على التصور اﻷحادي لطريقة قراءتنا لعمل أدبي أكثر من شيء آخر، والتي تؤدي بالمرء منطقيًا إلى استنتاج مفاده أن قراءة عمل واحد بطريقة غير قابلة للتغيير لا يمكن إعادة إنتاجها بلغة وثقافة أخرى، لكن الحقيقة أن تلك القراءة حتى في ثقافة واحدة بطبيعتها عملية ذاتية ونشطة. «يخسر« كل قارئ، مثل كل مترجم، شيء ما أثناء تناول عمل أحد المؤلفين، إما بسبب سوء الفهم أو عدم الانتباه أو التحيز الشخصي أو أيًا من العوامل اﻷخرى، وفي نفس الوقت يأتي بشيء لا يمكن ﻷحد آخر الإتيان به. حتى بدون الضجيج التابع للعمل اﻷصلي مثل إشادة النقاد أو النجاح التجاري أو الخلاف الصادم، لا يمكن أن نعرف الطريقة التي سيتفاعل بها القراء المستهدفين مع الترجمة أبدًا، ﻷننا لا نعرف طريقة تفاعل قراء العمل اﻷصلي معه من قراءة إلى أخرى. إذا لم نفكر في النص اﻷصلي بصفته كل أوحد محدد لا يمكن أن يتكرر بطريقة مناسبة، بل بصفته مجال من الطاقة المتدفقة دائمًا، مفتوح بلا نهاية على استيعاب وتأويل مختلفين، فسنبدأ في فهم أفضل للترجمة التي يتضح أنها ليست ممكنة فحسب بل ديناميكية مثل أي عمل تواصلي.

اترك تعليقاً