الرقابة والرقابة الذاتية على الترجمة

الرقابة والرقابة الذاتية على الترجمة

الرقابة والرقابة الذاتية على الترجمة

چولي سوليڤان

ترجمة: محمود راضي

* چولي سوليڤان: مترجمة ومتطوعة في جمعية كُتاب ورسامي كتب الأطفال.


«أي ترجمة عبارة عن مسألة إيدولوچية»

~ كريستينا شافنر

«أرفض الكذب على الأطفال»

~ موريس سنديك

«يميل المترجمون إلى الاعتقاد بوجوب حمايتهم لجمهور القراء»

~ فتيحة قصابي

*

منذ البدايات المبكرة لأدب الطفل، اعتبره الكبار وسيلة لتلقين أبنائهم قيمهم وقيم مجتمعهم، لكن هذه القيم تختلف جذريًا من مجتمع أو ثقافة أو جيل إلى آخر، ويلفت هذا السؤال أنظار المترجمين كلما ترجموا، وخصوصًا عندما يتبين الاختلاف الشديد بين الثقافات.

في اللغة العربية، توجد قلة من كتب الأطفال المترجمة التي تتناول موضوعات كالمثلية الجنسية أو الإعاقة أو الطلاق أو إدمان المخدرات. هذه الأمور موجودة بالتأكيد في كل مكان في العالم، لكن الناشرين العرب في العموم يُفضلون إقصاءها عن كتب الأطفال. أما على الناحية الأخرى، فكتب الأطفال العربية مُثقلة بموضوعات السياسة، والحكايات صارخة الوضوح حول الخير والشر، والدين؛ أما الموضوع المفضل فهو الأدب التاريخي.

في العام 1911، كتب راهب لبناني إلى المترجمين، لينصحهم بـ«الإحجام عن ترجمة ما قد يحرض على إفساد الأخلاق ويعرقل.. تقويم الأخلاق»، كما واصل الراهب حث المترجمين على امتهان مهنة أخرى.

في حالة اللغة الصينية، أدى ازدهار سوق كتب الأطفال في الصين إلى وجود وفرة في الترجمات. تتمتع شخصية بيبا الخنزيرة بشعبية مذهلة، ولكن في ظل الرئيس الحاكم مدى الحياة شي چن بينج، تعيش الصين حقبة قومية، تقلصت فيها أعداد كتب الأطفال الأجنبية في سبيل صد «التدفق الإيدولوچي» الآتي من الغرب. صرح مسؤول في مجال النشر لجريدة ساوث شاينا مورننج پ‍وست أن الهدف هو توفيق الكتب المستقبلية بدرجة أكبر مع عقيدة الحزب الشيوعي. «الكتاب المقدس» و«الرب» و«المسيح» من بين الكلمات المحذوفة في كتب الأطفال عند الترجمة. وفي قصة هانز كريستيان أندرسن «الفتاة بائعة الكبريت»، غُيّرت عبارة «عندما تسقط نجمة، تصعد روح لتكن مع الرب» إلى «شخص يغادر هذا العالم».

«برونز وعبّاد الشمس» رواية حاصدة للجوائز، كتبها تساو ون شيوان، وتحكي عن قرية ريفية خلال حقبة الثورة الثقافية، غير أنه لا توجد إشارة صريحة لهذه الحقبة على الإطلاق (ترجمتها إلى الإنجليزية هيلين وانج، والتي حاورها موقع ووردز آند بكتشرز في العام 2018)، كما رُفعت من الأرفف كتب أخرى للأطفال بسبب «الإباحية والعنف». تذكر الحكومة أن عمليات المنع تلك تستهدف «حماية عقول الأطفال من التدنيس والأذى، ومساعدتهم في تشكيل رؤى ملائمة عن الحياة والقيم والعالم».

في الاتحاد السوڤيتي، كانت الرقابة رسمية ومتشددة. أي كاتب عاش وقتئذ مُعرّض للترحيل إلى سيبريا بسبب اقترافه خطأ ما. نتيجة لذلك، تحول كثير من الكُتاب الروس إلى ترجمة كتب الأطفال، واستغلوا الكتب لإرسال رسائل سياسية باللجوء إلى «لغة إيسوبية»، مستخدمين المحاكاة الساخرة والتورية لتفادي الرقابة. «تساعد الرقابة بدرجة عالية على امتلاك ناصية الأسلوب الكتابي مع المقدرة على كبح جماح الكلمات لدى المرء». آمنت ناديا كروبسكايا زوجة لينين أن الهدف الرئيس من كتب الأطفال هو غرس «إيدولوچيا ثورية شيوعية».

نتيجة لذلك، «أُحبطت الشكوك والتساؤلات داخل عقول الشخصيات، واعتُبرت الفقرات الاستبطانية أو المتضمنة للتحليلات السيكولوچية غير مرغوب فيها»، وانطلاقًا من هذا الأساس اختيرت النصوص المُرشحة للترجمة.

إن كنت مترجمًا في دولة تعتبر بعض الأفكار خطرة أو مُدنسة، ينبغي عليك الاحتراس في انتقاء كلماتك. يشيع بين المترجمين عن اللغة الإنجليزية تخفيف حدة الموضوعات من خلال ممارسة الحذف. تقول فتيحة قصابي، الأستاذة بجامعة طاهري محمد بشار بدولة الجزائر أن الرقابة «لا تقتصر على الممارسات القمعية للأنظمة الشمولية»، مُشيرة إلى أن المترجمين في الجزائر منشغلون أيضًا بالحفاظ على ثقافتهم. كما تقتبس عن خوسيه سانتايميلا قائلة: «يميل المترجمون إلى ممارسة الرقابة الذاتية -سواء طوعًا أو كرهًا- في سبيل إنتاج ترجمات «مقبولة».

ربما تظن أن هذه قضية تؤثر فقط على المترجمين إلى الصينية أو العربية أو الروسية، لكنك مخطئ. ففي الولايات المتحدة، على وجه الخصوص، تُعد الرقابة على كتب الأطفال، بما فيها الكتب المترجمة، هاجسًا حقيقيًا لدى الناشرين. حيث نجد المدارس المسيحية الإنجيلية (التي تأسس ثلثها وقتما فرض قانون الحقوق المدنية على المدارس العمومية في الولايات المتحدة على دمج الأطفال السود ضمن صفوفها) ومدارس دينية أخرى تُدرّس لقرابة 5% من الطلاب الأمريكيين، أي ملايين. يوجد أيضًا في المدارس الحكومية آباء يعارضون بشدة وجود كتب الأطفال التي تذكر الساحرات، أو الفانتازيا في العموم، أو المثلية الجنسية، أو الوظائف الجسمانية، أو الجنس بين المراهقين، أو نظرية التطور، أو اللقاحات، أو المشروبات الكحولية، أو التدخين، أو المخدرات، أو الدين أو الإلحاد، أو الكتب التي تتضمن أطفالًا يتحدون السلطة. ثمة كتب مُنعت بسبب سُبة واحدة، كما أن التجديف الديني غير مُرحب به في كتب الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية. يوجد كثير من الآباء المطالبين برفع كتاب بعينه من رفوف مدرسة أبنائهم لم يقرأوا قط الكتاب محل النقاش. يتحتم على المترجمين أخذ هذه التوجهات بعين الاعتبار.

على الجانب الآخر، ينظر المحافظون إلى قرارات مثل سحب ناشر لكتاب «كعكة عيد ميلاد لچورچ واشنطن» باعتبارها رقابة، والذي يتضمن أم وابنة مستبعدتان تُعدان كعكة لرئيس الولايات المتحدة، حيث اشتكوا من استبعاد الدين والحس الوطني من كتب الأطفال، ومن جموح الصوابية السياسية. هذا الموقف لا ينحصر داخل الولايات المتحدة، وإنما يحضر عبر أرجاء العالم كافة. حيث اشتكت جريدة ديلي ميل مؤخرًا من كون كلمة «رجولي» صارت تُعتبر الآن كلمة معادية للنساء، وأعدت قائمة بالمفردات التي ينتقدها أولئك «الرُقباء الجدد».

توجد محرمات وموضوعات شائكة عديدة في اللغة الإنجليزية أيضًا، تتراوح من الجدال حول «الكتابات الذاتية عن الجماعات المهمشة» وصولًا إلى التخصيص الثقافي لكيفية الإشارة إلى أصحاب الاحتياجات الخاصة أو إلى الأفراد المختلفين عن الثقافة التقليدية الرائجة. ماذا يفعل المترجم عندما يتضمن العمل الأصلي أجزاء ربما يعتبرها قراء كثيرون مزعجة؟

لذلك، يواجه المترجمون أحيانًا الرقابة -أو يُفعلّون الرقابة الذاتية- على الكتب التي يترجمونها. ما رأيك في ترجمة كتاب للأطفال يحتوي على شتائم عنصرية عارضة، أو مصادر تاريخية تعتبرها متحيزة، أو آراء معادية نحو النساء؟ لسوء الحظ، تعد هذه المسألة مشكلة شائعة بين المترجمين. عبر مجموعات المترجمين على موقع فيسبوك وفيما عداه، رأيت مترجمين يعيشون صراعًا مع المطلوب فعله حيال الطبقية وكراهية النساء والتمييز ضد أصحاب الاحتياجات الخاصة ورهاب المثلية والعنصرية داخل الكتب التي يترجمونها. في أحيان كثيرة يمارسون «تغييرًا إجرائيًا» لتبديل غير المقبول في اللغة الإنجليزية، ولكن هل سيوصل هذا للجمهور الجديد فكرة زائفة عن الكتاب الأصلي؟

اترك تعليقاً