المترجم مُحرِّرًا

المترجم مُحرِّرًا

المترجم مُحرِّرًا

مقال كريستيل ماجينوت*

ترجمة آية نبيه

نشر في موقع رابطة المترجمين اﻷمريكيين ATA مايو 2021

*كريستيل ماجينوت تعمل في مجال الترجمة منذ 25 عامًا. عملت مترجمة في إحدى الشركات التجارية الكبرى طوال الثمانية عشر عامًا الماضية، تترجم المواد الخاصة بالشركة والنصوص التقنية ونصوص المبيعات والتسويق وتشرف على ترجمتها إلى عدة لغات. حاصلة على درجة الماجيستير في إدارة الأعمال الدولية والتسويق والترجمة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية من جامعة آكس أون بروفانس في فرنسا.


غالبًا ما يأتي المترجم فيما أحب الإشارة إليه بـ“آخر الخط” في رحلة مراجعة النص. يُقدَّم النص للترجمة عادة بعد أن يكون قد مر على فريق كبير من المحررين والمدققين اللغويين لمراجعته وتحريره. لكن برغم تلك الوفرة من الإمعان، غالبًا ما نجد نحن المترجمون النصوص “النهائية” لا تزال تحتاج إلى تحرير قبل ترجمتها (وكثيرًا بعدها).

قد يُرجِّح البعض أن الحاجة إلى تحرير النص في تلك المرحلة تُبرز عدم كفاءة المراجعين الآخرين، لكن ذلك نادرًا ما يكون صحيحًا. ففي أغلب الأحيان، يكون المحررون والمدققون اللغويون على قدر من النباهة والدقة والاحترافية العالية. المسألة لا تتعلق بارتكاب الأخطاء أو إمكانية تداركها قدر ما تثير التساؤل حول سبب ظهور “نقاط ضعف” النص بالذات عند آخر الخط، أي أثناء مرحلة الترجمة. والإجابة لا تكمن فقط في مهارات المترجم اللغوية ولكن أيضًا في طبيعة الترجمة.

الكلمات مقابل الأفكار

في حين أن المترجمين لغويون ماهرون ولديهم معرفة أكاديمية وعملية شاملة بلغتي المصدر والهدف (الكثيرون منهم خبراء حقًا في مجالات اختصاصاتهم)، لا يعني ذلك أنهم يستطيعون تحديد أخطاء النص المستترة أكثر من العديد من المراجعين الآخرين.

يتردد كثيرًا أن الترجمة لا تتعلق بالكلمات فحسب وإنما بشكل أكبر بالأفكار، وتكرار ذلك ليس من المبالغة في شيء. لأجل تفسير الفكرة وراء عبارة ما ونقلها بلغة أخرى، يجب على المترجم تفكيك تلك العبارة بالكامل ثم إعادة تركيبها. وأثناء عملية “التجريد” تلك غالبًا ما تظهر أخطاء النص الخفية على السطح. في حين أنه ليس على كل مترجم أن يكون مطلعًا على موضوع النص المصدر، فلأجل إنتاج ترجمة دقيقة عليه أن يفهم معنى كل عبارة وعلاقتها بالنص ككل.

إذا كان النص غامضًا بأي شكل من الأشكال، فعلى الأرجح سيثير ذلك استفسارات المترجم الجيد. وهناك العديد من الأسباب وراء ذلك. أولًا، لأن المترجم المحترف والملتزم بأخلاقيات المهنة لن يترجم نصًا ملتبسًا عليه. ثانيًا، لأنه في وقت ما قد يطرح أحدهم تساؤلًا حول عدم مطابقة الترجمة للنص المصدر، بغض النظر عن دقة ادعاءات الأخير. وثالثًا، لأن المترجم قد يشعر في الواقع ببعض المسؤولية حول جودة مادة العميل (أو عدم جودتها).

المترجمون كتّاب أيضًا

إضافة إلى قدرة المترجمين على تفكيك النص، فهم يستحقون لقب كتَّاب عن جدارة. بغض النظر عن تخصص المترجم في الترجمة الأدبية من عدمه، الكتابة (بمعنى التمعن في أمر ما ووضع مسودة له ومراجعتها وتحريرها) هي جزء أساسي في عملية الترجمة.

مفهوم المترجم الكاتب غريب على الكثير من العملاء، لكن المترجمين يعيدون كتابة نصوص عملائهم حرفيًا (مثلًا، نصوص كاملة كالعقود والمواقع الإلكترونية والكتيبات الإرشادية ونشرات المنتجات والمقالات والكتب، إلخ) من البداية إلى النهاية. لذا لا يجب أن نتفاجأ أن المترجمين هم أكثر قدرة على اكتشاف عدم الاتساق من قراء كثيرين يقرأون النص صفحة بعد صفحة بتأنِ، حتى إذا كانوا يفعلون ذلك بعين ناقدة.

إذا كان النص يشتمل على متناقضات (على سبيل المثال: معلومات متضاربة في النص ذاته، أو في نصوص مختلفة في المادة المطبوعة نفسها)، يستطيع المترجم أكثر من غيره ملاحظتها والإشارة إليها. إضافة إلى ذلك، كثيرًا ما يحتاج المترجمون إلى البحث حول موضوع النص أثناء الترجمة. وإذا صادفوا شيئًا أثناء بحثهم يتعارض كليًا مع المعلومات المقدمة في النص المصدر، قد يستدعي ذلك تساؤلاتهم أيضًا.

المترجم الفضولي يحمل أنباءً سارة

عقل كل فرد مدرب وفق مهنته على النظر إلى النص بطريقة مختلفة. قد يراجع أخصائي التسويق النص ليتأكد من أنه يتضمن عوامل البيع المطلوبة وأنه سلس وجاذب للقراء، ويراجع الأخصائي القانوني النص ليتأكد من أنه لا يفتح بابًا لطعون قانونية، ويركز المهندس في مراجعته على تقديم رأي فني. أما المدقق اللغوي فسيكتشف الأخطاء الإملائية والنحوية وعلامات الترقيم والمشكلات الأخرى الكبرى المتعلقة ببناء الجملة. لكن القليلون هم من يقرأون النص بنظرة أكثر عناية من المترجم. مشكلات عدم الاتساق وعدم الدقة من الناحية التقنية وعيوب البناء الخفية في عبارة ما أو في معناها لا تظهر عادة على السطح إلا حين يبدأ المترجم بالفعل في ترجمة النص.

بغض النظر عن منبع الالتباس –تفسير خاطئ من المترجم أو غموض في النص المصدر أو خطأ مطبعي واضح– سيطرح المترجم الجيد على الأرجح أسئلة أثناء الترجمة. ليس دائمًا، بالطبع، لكن كثيرًا بما يكفي لإثارة قلق العميل إذا لم يطرح المترجم أي أسئلة إطلاقًا. على الرغم من قدرة معظم المترجمين المحترفين على تجاوز “نقاط ضعف” النص وإعادة نسخة أفضل/أوضح من الأصل إلى العميل، فإن عدم طرح أي أسئلة إطلاقًا قد يوحي بأن النص مكتوب بوضوح وخالٍ من الأخطاء دائمًا. كما سيوحي أيضًا بأن المترجم يفهم النص دائمًا بالكامل، بما في ذلك المسائل التقنية والتلاعب اللفظي والحيل الإبداعية الفنية/اللغوية وغير ذلك من أمور دقيقة. وفرصة حدوث ذلك ضئيلة نوعًا ما، خاصة في النصوص الإبداعية. في الواقع، سيتفق معظم المترجمين على أن طرح الأسئلة هو جزء من وظيفتهم. وكما يذكر “دليل تعليم العميل المجاني” الذي تقدمه الرابطة الأمريكية للمترجمين:

“المترجم الفضولي يحمل أنباءً سارة: لا يقرأ أحد نصوصك بعناية أكثر من المترجم. أثناء الترجمة، سيكتشف المترجم على الأرجح الأجزاء الغامضة —الأجزاء التي ينبغي إيضاحها. وهذه أنباء سارة لك لأنها ستسمح لك بتحسين النص الأصلي. المترجم الجيد يجرد الجمل تمامًا قبل كتابة جمل جديدة في اللغة الهدف. ويطرح أسئلة أثناء ذلك.[1]

 لكن قد لا يرى كل العملاء الأمر بهذه الطريقة.

نعمة أم نقمة؟

يقدر بعض العملاء قيمة تعليقات المترجم كثيرًا لدرجة أنهم ينتظرون حتى استلام النص المترجم قبل نشر النص الأصلي أو طباعته. يرى هؤلاء العملاء قيمة في دقة المترجم في البحث حول موضوع النص، كما يدركون أهمية احتساب وقت إضافي في جدول الإنتاج/الطباعة للسماح بالترجمة والتحرير ما بعد الترجمة. لكن العملاء الجدد نسبيًا على مجال الترجمة أو على المشهد العالمي قد يجدون صعوبة في تقدير حقيقة أن المترجم الفضولي هو مترجم جيد (لا مزعج) أو أنه لا حد لعدد مرات مراجعة النص.

في بعض الحالات، قد يُقابَل اهتمام المترجم بالتفاصيل بنوع من العداء أو الاستياء أو سوء الظن. وقد يثير الاستفسار حول نص ما امتعاض كاتبه، ويشعر المحرر بأن مهاراته المهنية محل مسائلة، ويغضب المدير لأن النص لم يُسلَّم في موعده بسبب “تأخر الترجمة”. في حالات سيئة، قد يقرر العميل تجاهل استفسارات المترجم واستخدام ترجمات أولية، أو في حالات أسوأ، يقرر العمل مع مترجمين/شركات ترجمة لا تطرح أي أسئلة أو تشير إلى “الأجزاء الغامضة” في النص المصدر.

أحرر أو لا أحرر؟

حين يتعلق الأمر بنص مصدر غامض (أو عصي على الترجمة)، يواجه المترجم ما هو أكثر من مجرد اختيار “ليس سهلًا جدًا” بين أن يحرر أو لا يحرر. فأولًا، المدى المسموح لتحرير النص من قِبل المترجم (بموافقة العميل) مسألة مثيرة للجدل بعض الشيء. فيما ستتفق الأغلبية على أنه من الطبيعي تصحيح الأخطاء المطبعية الواضحة والتغاضي عنها في الترجمة، يرى الكثيرون أن التغييرات الأكثر إشكالًا، مثل تصحيح مصطلحات تقنية أو إعادة صياغة عبارات كاملة لتسهيل قراءتها أو إيضاح معناها، قد لا تُترك بالضرورة في يد المترجم.

حين نصادف تلك الحالات (النادرة لحسن الحظ) التي ينبغي فيها إعادة كتابة النص المصدر، قد لا يكون لدينا خيار سوى طلب نسخة مُراجَعة من العميل. وقد يصل الأمر إلى أن نتولى مسؤولية “تعويض ما هو غير قابل للترجمة” بإعادة كتابة النص المصدر، إعادة إرساله إلى العميل للموافقة عليه، ثم إعادة ترجمته (ما إذا كان يتوجب علينا فعل ذلك أم لا يرجع إلى تقدير كل شخص). في حالات أخرى (أكثر شيوعًا)، يتطلب النص المصدر تعديلات مهما كانت بسيطة فإنها قد تؤثر كثيرًا على كل من الترجمة وجودة النص المصدر.

في كلتا الحالتين، يجب أن نكون على استعداد تام لتبرير طلب التحرير، لكن في الوقت نفسه نتعامل باحترافية ولباقة عند تقديمه للعميل. سيرحب بعض العملاء بتعليقاتنا، لكن البعض الآخر قد لا يكون متقبلًا فكرة تحرير النص المصدر. وفي هذه الحالة، قد نجد أنفسنا بين مطرقة وسندان، وعلينا الاختيار بين إنتاج نص هدف دقيق قد لا يطابق النص المصدر، أو إنتاج نص هدف ليس دقيقًا يطابق النص المصدر.

ما يمكننا فعله

نقد نسخة العميل ليس بالضرورة من مسؤوليتنا وتصحيحها ليس دائمًا دورنا، لكن بمقدورنا أن نُطلع من نعمل معهم على ما نفعله وما قد نصادفه أثناء عملنا وكيف يمكن أن يفيدهم ذلك.

في بعض الأحيان، قد يكون من واجبنا تذكرة العملاء بلباقة بأن تحرير النص أثناء الترجمة وبعدها لا هدف منه إلا تحسين الأصل والعمل معًا نحو نتيجة أروع وأفضل. أخيرًا، إذا كانت هناك أخطاء مطبعية واضحة على غلاف منتج أو موقع إلكتروني، إذا كانت تعليمات تركيب جهاز ما مبهمة، إذا كان عقد ما يحتمل الكثير من التأويلات، إذا سُحب منتج من الأسواق نتيجة لمزاعم مضللة، أو إذا أذى شخص نفسه نتيجة لخطأ في النص المكتوب (أو المترجَم)، فإن هذه الأخطاء سوف تسيء إلى العميل.

لذا، لنحافظ على فضولنا، لكن على القدر نفسه من الأهمية، نسعى إلى الخروج من دورنا التقليدي ونذكر أنفسنا دائمًا ونثبت للعالم من حولنا أن كل مساهمة مهمة وأننا (الكتاب، المحررون، المدققون اللغويون، المترجمون) لا نتنافس، بل يكمل كل منا الآخر. وإذا حدث، في وقت لاحق، أن فهم بعض العملاء أهمية تخصيص وقت إضافي في جدول الإنتاج/الطباعة للسماح للترجمة والتحرير بعد الترجمة، فهذا خير لنا ولهم.


[1] Durban, Chris. Translation: Getting it Right, p. 18

اترك تعليقاً