عن كسب الرزق من الترجمة والكتابة دون كتابة

عن كسب الرزق من الترجمة والكتابة دون كتابة

الترجمة تشبه الكتابة دون كتابة: كتابة ما أعرف أني لن أقدر على كتابته، وكتابة ما أستطيع أنا فقط -في هذا الوقت وتلك المساحة- كتابته رغم ذلك.

عن كسب الرزق من الترجمة والكتابة دون كتابة

كويل شو

ترجمة: محمود راضي

*نُشرت هذه المقالة عبر موقع Asia Art Archive في فبراير 2023 ضمن سلسلة Afterlives التي تتناول مشاغل المترجمين.


بقدر رغبتي في رمنسة امتهاني للترجمة، أجد نفسي قاعدة أمام حاسوبي المحمول، أُجوُجِلُ عن مُفردتين صينيتين للاستمناء في يوم الكريسماس. أعددت لنفسي قهوة الصباح، وحضرت قواميسي (الإلكترونية)، وإيقاعات الموسيقى تدب من لو-فاي جيرل في الخلفية، فقط لأقنع نفسي بإمكانية التخفيف من ثقل ظل عملي بالترجمة. لكن مرت قرابة نصف الساعة وأنا أقرأ عن طرق لا تحصى للاستمناء، وأرجع إلى جذور المفردتين الصينيتين للاستمناء، قبل أن استقر على أي ترجمة منهما اعتمدها. كل هذا من أجل كلمة واحدة.

في ذلك الوقت، كنت أترجم فيلمًا وثائقيًا عن رسام الكومكس الإيروتيكية روبرت كرامب، وفي أثناء العمل عليه، أمطرت جميع من حولي بأسئلة من عينة: أيوجد فارق بين المؤخرات والطياز، وأي ترجمة لكلمة «كرزة»* تحمل وقعًا أعلى إيروتيكية. يا لها من تجربة، يعود جزء من تفردها لأني كرست عطلة الكريسماس بأكملها لترجمة الخمسون ألف كلمة الخاصة بالفيلم (قال المترجم الياباني سام بيت ذات مرة أن الترجمة هي أبطأ وسيلة للقراءة، وهذه في رأيي صياغة مُثلى حقًا لحصيلة تشرب وتمخيض النصوص لتصب في لغتك الهدف، وهي عملية تبدو بطيئة بالتأكيد، وبغض النظر عما يجرى، يوجد دائمًا موعد تسليم يحل مبكرًا جدًا بصورة غير معقولة). هذا المشروع الترجمي لا يُنسى أيضًا بما أني لم أحتاج قط إلى الاستعانة -ناهيك عن التوضيح- بكامل القوام الفعلي للمفردات الجنسية الأمريكية الدارجة في حقبة السبعينيات. لهذا تجمعني بالترجمة علاقة حب/كراهية، فهي تستهلك كثير من الوقت، من أجل عمل يعتبره أغلب الناس مجرد خدمة تستطيع تقديمها أي آلة أو أداة مُسيِرة بالذكاء الاصطناعي. لكن بأي وسيلة أخرى يستطيع بها أحدًا مثلي -من هونج كونج وتعيش في العام 2023- توطيد الصلة هكذا بالثقافة الجنسية الأمريكية في السبعينيات؟

[الصورة: مقتطف من نص الفيلم الوثائقي الذي توجب عليّ ترجمته] [التعليق داخل الصورة: روبرت لا يغالي حيال أي شيء، فقد مُنِحَ قضيبًا من أكبر القضبان في العالم]

باعتباري هونج كونجية أجيد لغات عديدة، أشعر في أحيان كثيرة بأني غارقة في اللغات وفي عبء الترجمة، كأن صميم وجودي يحدده ما أتكلم به وأكتبه، وبالتقلب بين اللغات، فوجودي الملموس ليس سوى نشاط سياسي. أنا متيقنة أنه كذلك عند مستوى معين، وأُقَدرّ بالفعل أولئك المترجمين الذين يرون في ترجماتهم عمل مناهض للقمع يرتكز على المقاومة والإصلاح. لكن إن وجب عليّ الحديث بصراحة مطلقة، فالسبب المباشر الذي يدفعني للترجمة لا ينتمي لهذه الهواجس الملحة على الإطلاق، فحافزي دائمًا هو كسب الرزق، وسأكون كاذبة إذا قلت خلاف ذلك، لأنه لا توجد سبل كثيرة أمام الكُتاب للحصول على المال اللازم للعيش، لكن بعيدًا عن الجانب الاقتصادي، أجد متعة أحيانًا في الترجمة لأنها تؤسس مساحة أشعر من خلالها بالاختفاء والظهور عبر لغاتي. لا يهم مدى غرابة عمليات البحث المخزنة على متصفحي للإنترنت (مثل: “دقيق الذرة”، و”ملامسة الأقدام تحت الطاولة”، و”رائحة الجسم الكريهة” من بين أخريات فضلتُ ألا استعرضها علانية هنا)، فلديّ العذر الدائم لفعل ذلك بغرض “البحث”. لدي هذه النزعة الإنطوائية المتمثلة في الرغبة في التجوال خفية عن الأعين، كي أكتب من وراء حجاب. أفكر في هومر سمبسن وهو يختفي داخل أجمة الشجيرات.

الترجمة تشبه الكتابة دون كتابة: كتابة ما أعرف أني لن أقدر على كتابته، وكتابة ما أستطيع أنا فقط -في هذا الوقت وتلك المساحة- كتابته رغم ذلك، لأن تأويلي سيختلف دومًا عن تأويلك. غير أن ما أفضله بخصوص الترجمة هو حتمية فشلها. لا يهم مدى اقتراب ترجمتك من منجز المؤلف، ستظل هناك فروق دقيقة يتعذر التقاطها عبر لغة أخرى. لا شيء قابل للترجمة الدقيقة، بل يكمن الأمر في مدى مقدرة ترجمتك على الاقتراب من جوهر النص، والتي ربما تغدو في كل الأحوال مجرد أشباح معاني. ليست الترجمة سوى محاولة لإدراك مدى مقدرة العوالم الواقعية المختلفة (وعدم مقدرتها في أحيان كثيرة) على التجلي عبر اللغات التي تتحدثها. أحيانًا أثق أني فهمت نصًا، لكني لا أدرك أني لم أفهمه حق الفهم إلا مع شروعي في إعادة صياغته بمفرداتي. ثمة مسرة في محاولة تبيان أو كشف الحُجب عن نص ما، بما يشبه كثيرًا حل الأحجيات أو لعب السودوكو، من باب احتواء النص الأصلي بالفعل على جميع الإجابات، ومن هنا يتوجب عليك فقط طرح الأسئلة الصحيحة.

العبرة بك «أنت»: المترجم، صاحب النفوذ، بصفتك مُنتج المعنى. في هذا السياق، لا أقصد أن الترجمة عمل خيرّ مجرد من الأنانية، بل أقصد أننا لا نترجم فقط لأجل الآخرين، وإنما لأنفسنا. هذا لا يعني أن العمل لصالح كاتب أو قراء محتملين مصدر خزي. بالعكس، حين يُنظر أكثر إلى الترجمة باعتبارها «عمل إضافي» أو «مهمة زائدة» (أفكر في المناسبات اللي تطلب فيها المؤسسات «خدمة» الترجمة لأن في حوزتهم ميزانية إضافية كي «يُتيحوا» أعمالهم لجمهور أعرض)، تزداد أهمية التفكير في كيفية دعم المترجمون لأنفسهم ماديًا. على سبيل المثال، بينما يُدفع لك المال للترجمة، يُمسي العمل طوعيًا في أحيان كثيرة، كما هو الحال مع مترجمي الأدب. ليس فقط بسبب احتمالية عدم تلقيك أجرًا عن العمل الذي أنجزته، وإنما لاضطرارك الدائم إلى إرسال عينات ومقترحات الترجمة، أو حتى قطع شوط إضافي بترجمة الكتاب كاملًا قبل البت في قرار نشره. لهذا أترجم نصوص لا أهتم بها البتة (مثل الرسائل الإخبارية للشركات، وترجمة الڤيديوهات الترويجية) كي أتمكن ماديًا من ترجمة العمل الذي أحب، العمل الذي أتوق كي أصير جزء منه.

[الصورة: لقطة من مسلسل «وينزداي» من إنتاج نتفلكس] [حاشية الصورة: المحررون كائنات قصيرة النظر تُحرّكها الخوف]

* في الأصل Cheery، وهي كلمة دارجة يٌقصد بها غشاء البكارة (المترجم).

اترك تعليقاً