التحيز للمذكر في اللغة الفرنسية.. ما بين القواعد النحوية والأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية

التحيز للمذكر في اللغة الفرنسية.. ما بين القواعد النحوية والأيديولوجيا والمصالح الاقتصادية

مقال شادي جمال 


حصة للنحو تُغضِب التلميذات 

عندما كنا ندرس اللغات في المدرسة كنا نستقبل قواعدها النحوية كمُسَلَّمات بدون معرفة عِلتها ودون أن تثير دهشتنا وتُحرِّك فضولنا لمعرفة من أين أتت وما هي فلسفتها، لكن أحيانًا يستقبل تلميذ أو تلميذة القاعدة بتساؤل “لماذا؟”، فيسأل أو تسأل معلمهم أو معلمتهم، فتكون الإجابة -أو اللا إجابة- البذرة لتكوُّن أفكار أيديولوجية لدى التلميذ أو التلميذة. 

في حصة للغة الفرنسية بمدرسة بمقاطعة كيبيك الكندية، وتحديدًا في العام 2000، بدأت المُدَرسة تشرح للتلميذات الفارق بين ils التي تعني “هُم” و elles التي تعني “هن”، إذ قالت للفتيات أن المذكر يتفوق على المؤنث، فإذا وُجد داخل مجموعة عدد من السيدات وعدد من الرجال، فيقال دائمًا ils (هُم). لم يمر هذا الطرح على كل التلميذات الصغيرات مرور الكرام، فقد استوقفت بعض منهن المُدَرسة لتسألها قائلة: حتى إذا كان هناك عشرة سيدات ورجل واحد؟ فقالت المُدَرسة نعم، ثم سألت تلميذة أخرى: حتى لو كان مائة سيدة ورجل واحد؟ فأجابت المُدَرسة بالإيجاب، وظلت هؤلاء الفتيات يزايدن بالأعداد لأقصى عدد درسنَّه في مادة الحساب، وفي كل مرة كانت المُدَرسة تجيبهن بنفس الإجابة، فوجود رجل واحد مع أي عدد من السيدات مهما كان عدد السيدات كبير فيجب أن يقال ils (هُم). 

سوزان زاكور إحدى التلميذات التي كن في تلك الحصة ومن القليلات اللاتي استقبلن القاعدة النحوية بالدهشة، تقول بأنهن قد شعرن بشيء من عدم العدالة في تلك اللحظة، وهذا الشعور بعدم العدالة لم يتوقف لدى سوزان عند حد السخط على قواعد اللغة والتنديد بها، بل ولَّد لديها فضولًا دفعها لمعرفة عِلَّة هذه القواعد المنحازة للذكر، من أين جاءت؟ ولماذا هي هكذا؟ ومتى كان ذلك …؟  

التلميذة تُصبِح كاتبة ومدافعة نسوية 

بعد سبعة عشر عامًا من ذلك اليوم الفارق تؤلف سوزان1 هي وزميل لها يدعى مايكل2 ليسار دليلًا للكتابة الفرنسية بأسلوب يخلو من التحيز الجنسي3، فجاء كتابهما ليساعد الكُتَّاب والكاتبات على اكتشاف أسلوب للكتابة لا يستخدم المذكر العام generic masculine وفي نفس الوقت دون الإخلال بالقواعد النحوية للغة الفرنسية. لم يقتصر الدليل على هذا فقط، بل سردت سوزان ومايكل في هذا الكتاب الخلفية التاريخية التي أدت إلى نشوء تلك القواعد المنحازة للذكر، فيقدما لنا إجابة عن أسئلة: من أين جاءت تلك القواعد؟ ولماذا هي هكذا؟ ومتى كان ذلك …؟ 

إذ يفاجئاننا بأن اللغة الفرنسية لم يكن بها هذا التمييز قبل القرن السابع عشر، وأن كل ما بها من تحيز للمذكر هو مستَحدَث بفضل كفاح مجموعة رجال لغويين من النبلاء وأصحاب النفوذ من المعادين للنساء misogynists، واستمر هذا الكفاح على مدار قرنين من الزمان حتى ترسخت قواعدهم وأصبحت وضعًا قائمًا. فمن هنا لم يغير مايكل وسوزان مفردات اللغة وقواعدها حسب أهوائهما كما يمكن أن يتراءى للبعض من اسم الكتاب، بل أن مقترحاتهما كانت مرجعيتها ما كان قبل القرن السابع عشر من ناحية، ومن ناحية أخرى بالعودة إلى اللغة اللاتينية وهي الأصل التي جاءت منه اللغة الفرنسية. 

قبل القرن السابع عشر لم يكن المذكر يشمل المؤنث 

من المعروف في اللغة الفرنسية أن تصريف نهايات الأفعال والصفات terminaisons تنتهي بحرف “e” في حال أنها تعود على الإناث، فمثلًا عندما نَصف رجلًا بأنه ذكي نقول intelligent، وللمرأة نقول intelligente، أما عند وصف جمع من الناس فإذا وُجد رجلًا على الأقل ومهما كان عدد النساء، فيقال intelligents، أما intelligentes فتقال في حالة واحدة وهي أن تكون المجموعة كلها من النساء وليس بينهن أي رجل. تقول سوزان ومايكل أن هذه القاعدة التي تنص على أن “المذكر يشمل المؤنث” لم تكن موجودة حتى القرن السابع عشر، بل كانت القاعدة المعمول بها تنص على أن يتم تصريف كل من الفعل والصفة حسب جنس الاسم الأكثر قربًا من هذا الغعل أو هذه الصفة، بمعنى أن نقول “النساء والرجال المتعلمين” وهنا تم تصريف “متعلمين” تصريف المذكر ليس لأنه يشمل المؤنث بل لأن الكلمة الأقرب من “متعلم” هي كلمة “الرجال”. أما إذا قلنا “الرجال والنساء” فنقول “الرجال والنساء متعلمات” وذلك لأن الكلمة الأقرب من “متعلم” هي النساء. هكذا كانت القاعدة التي تضبط عملية التصريف وكان اسمها l’accord de proximité، فمن ثم كان بناء الجملة هو الذي يجعل التصريف إما أن يكون مؤنثًا أو أن يكون مذكرًا. تقول سوزان ومايكل أن من غيَّر هذه القاعدة وأحلها بقاعدة سيادة المذكر على المؤنث هو بارون فرنسي يُدعى كلود دي فوجلاس، وهو عالِم لغوي وأحد الأعضاء الأوائل للأكاديمية الفرنسية L’Académie française4، إذ قال في هذا الأمر: “إن الجنس المذكر يتمتع بسمعة أنه أنبَل plus noble من جنس النساء بسبب تفوق الذكر على الأنثى.” 

وتشير سوزان ومايكل إلى أن الأكاديمية الفرنسية التي تأسست في عام 1635 ليكون دورها وضع القواعد اللغوية والعمل على جعل اللغة نقية وفصيحة وقادرة على التعامل مع الفنون والعلوم، كان كل أعضاءها من الرجال وجميعهم من النبلاء وأصحاب السلطة والنفوذ، وهذا ما جعل قراراتهم اللغوية نافذة كتشريعات القانون، ويشير الكتاب إلى أن الجمعية ظلت مقاعدها مقتصرة على الرجال فقط إلى أن دخلتها أول امرأة في العام 1980 أي بعد 345 عامًا من يوم تأسيسها. 

النزاع حول الوظائف المرموقة 

إن التمييز الجنسي لا يخص القواعد النحوية وسيادة ils على elles فحسب، بل أنه امتد للمفردات نفسها وتحديدًا الألقاب التي تدل على أسماء الوظائف. فتقول سوزان ومايكل إن الصيغ المؤنثة لبعض من المهن تم إلغاءها وتم الاحتفاظ بالصيغة المذكرة لها فقط، من هذه الكلمات peintresse التي تعني “رسامة” وهي مؤنث peintre، وكلمة poétesse التي تعني “شاعرة” ومذكرها poéte، وكلمة philosophesse التي معناها “فيلسوفة” ومذكرها philosophe. وتعددت المبررات “اللغوية” التي قدمها رجال اللغة لمحو هذه الكلمات. فبدأت بأن قالوا بما أن الكلمات (peintre – poéte – philosophe) في صورتها المذكرة تنتهي بشكل طبيعي بحرف “e” وهو التصريف المعروف للتأنيث والذي وقعه صوتيًا يدل نوعًا ما كما هو معتاد على المؤنث، إذًا فلا لزوم ل”esse” في النهاية، ومن ثَم تم محو تلك المفردات الثلاثة (peintresse – poétesse – philosophesse) من اللغة والاكتفاء فقط بصيغتها المذكرة لتدل على الجنسين الرجل والمرأة. إلا أن بعد ذلك تم إلغاء كلمات أخرى لا تنتهي صيغتها المذكرة بحرف “e”، منها كلمة 5autrice بمعنى “مؤلِّفة” أو “كاتبة” والتي مذكرها auteur، وكلمة médecine التي تعني “طبيبة” ومذكرها médecin، وكلمة professeuse التي تعني “أستاذة” ومذكرها professeur، لتكون الصيغة المذكرة هي الشاملة أيضًا، والرجل الذي كان وراء تلك الحملة طبيب وكاتب فرنسي مرموق يدعى نيكولا أندري وقد نشر كتابًا من جزئين عن اللغة الفرنسية في العام 1692 بعنوان “تأملات في الاستخدام المعاصر للغة الفرنسية”.6  

لم يكن الغرض من محو الصيغ المؤنثة لهذه الكلمات غرضًا لغويًا كما ادَّعوّا، بل في حقيقته كان غرضه منع المرأة من امتهان تلك المهن ذات الطبيعة النخبوية والمرموقة اجتماعيًا. ومما يؤكد تلك الحقيقة شيئان، أولهما أنهم عندما ألغوا تلك الكلمات لم يلغوا الكلمات التي تدل على المهن ذات المكانة الدونية بالنسبة المجتمع الفرنسي آنذاك برغم أنها تحمل نفس العِلة اللغوية التي في الكلمات الملغاة. فعلى سبيل المثال لم يلغوا كلمة serveuse التي تعني “خادمة” برغم إلغاء professeuse التي لها نفس النهاية، وتم الإبقاء على كلمة spectatrice التي تعني “مُتفرِّجة” برغم إلغاء autrice التي لها نفس النهاية، وغيرها من الأمثلة التي تستعرضها لنا سوزان ومايكل في هذا الدليل7

والشيء الثاني الذي يؤكد أن تلك كانت النية الحقيقية لإلغاء الصيغة المؤنثة أنهم أعلنوا ذلك بمنتهى الوضوح والصراحة، فقد كتب رجل القانون والكاتب هنري لينجيه في الجريدة التي أصدرها مشككًا في قدرة النساء على الكتابة فقال “إننا لا نقول autrice لأن من الصعب على المرأة أن تكتب كتابًا، بينما من طبائع الأمور أن تُعجَب المرأة بقصيدة شعرية أو بعرض فني لذا يمكن أن تكون spectatrice.” 

هناك رجل آخر تكلم عنه مايكل وسوزان وهو اسم يعرفه معظم من درس في مدارس لغتها الأولى الفرنسية حيث كان لدينا -طلاب كلية سان مارك- كتاب للقواعد النحوية يحمل اسمه، هو عالم اللغة لويس نيكولا بيشريل. في عام 1843 قد قال هذا الرجل: “بالرغم من وجود عدد من السيدات يعملن في مهن الأستاذية والتأليف الموسيقي والترجمة، فلا ينبغي أن نقول مترجِمة بل مترجِم، ولا نقول مؤلِّفة موسيقى بل مؤلِّف موسيقى، ولا نقول أستاذة بل أستاذ، ذلك لأن تلك الكلمات أُبتدعت خصيصًا لأجل الرجال الذين يمارسون تلك المهن.” 

يروي مايكل وسوزان أن في مقابل ذلك كانت هناك بعض المهن التي لا يمتهنها سوى النساء فقط مما كان سببًا في أن لا يكون لها صيغة مذكرة، كمهنة الخادمة والبالرينا، تلك المهن عندما بدأ بعض الرجال يدخلونها لم يُطلَق عليهم المسمى ذاته -المؤنث بطبيعة الحال- الذي يُطلق على المرأة ممتهنة هذه المهن، بل على الفور تم اختراع كلمات جديدة لتخص الرجال، كما حرص من قام باستحداث هذه الكلمات على أن تكون بعيدة كل البعد عن المسمى النسائي للمهنة. هنا يقول مايكل وسوزان أن المجتمع كان -وما زال- يقاوم استحداث الصيغ المؤنثة لأسماء المهن ذات الصيغة المذكرة في حين أنه يُسرِع من استحداث الصيغ المذكرة للمهن التي كانت تمتهنها النساء. فعلى سبيل المثال عندما دخل الرجل مجال الباليه لم يُطلَق عليه كلمة ballerin كمذكر كلمة ballerine بل أصبح مسماه danseur de ballet وهي الترجمة الحرفية لعبارة “راقص الباليه”. أما بالنسبة لمهنة التنظيف أو الخدمة فنظرًا لأن جميع من كان يمتهنها كن من النساء فكان الاسم اللغوي لها femme de ménage، حيث femme تعني “امرأة” وكلمة ménage تعني أعمال النظافة، إذن تصبح الكلمة معناها “فتاة التنظيف”. عندما أصبح هناك رجال يعملون كخدم لم يُطلَق على الرجل منهم homme de ménage على غرار femme de ménage وإنما تم استحداث مصطلحين أكثر وقارًا وهما technicien de surface التي تعني “فني الأسطح” أو agent d’entretien التي معناها “عامل الصيانة”. 

وتتوالى الحكايات التاريخية التي يرويها لنا مايكل وسوزان في كتابهما وكلها مشبعة بالكوميديا السوداء، لنكتشف من خلالها كيف تأسست كل من المفردات والقواعد اللغوية حتى أصبحت ذات انحياز ذكوري. فالنزاع لم يكن لغويًا فحسب، بل هو نزاع غرضه عدم دخول النساء مهن الفكر والعلم والثقافة professions savantes، وبالطبع المهن التي فيها تَملُّك أو إدارة، وهي جميعها تتميز بأنها “حرة” بمعنى أن من يعملها لا يكون فيها مرؤوس أو مَسُود من أحد بل مستقل بالإضافة إلى أنها من ذات العائد المالي الكبير. فلا غرابة إذًا أنه يوجد في اللغة الفرنسية كلمة employeur والتي تعني “الرجل صاحب العمل” ولا توجد employeuse التي تعني “صاحبة العمل”، في حين وجود كلمتي travailleuse التي تعني “عاملة” أو “موظفة” و travailleur التي تعني “عامل” أو “موظف” على حد السواء. ومناهضة هؤلاء الرجال دخول النساء تلك المهن كان سببه من ناحية إيمانهم برفعة طبقتهم ودونية الآخرين من عامة الشعب والذي من بينهم النساء بطبيعة الحال، وأن هذه المهن مخصصة للنخبة من الناس، ومن ناحية أخرى عدم رغبتهم في أن يزاحمهم أحد في مصادر رزقهم لأن ذلك سيقلل من حجم مكسبهم منها. 

وبعد أن سرَدَت لنا سوزان ومايكل الخلفية التاريخية التي كانت وراء تأسيس قواعد اللغة الفرنسية التي نستخدمها الآن، شرحا كيف يمكن أن نكتب الفرنسية بصياغة غير ذكورية وتراعي مختلف الأنواع الاجتماعية على حد سواء وبدون أن نُثقِل النَص أو تجعل جُمله معقدة مما يُصَعِّب من قراءتها. 

من كتاب سوزان لكتاب بل هوكس 

بعد عام من صدور دليل سوزان ومايكل أصدرت دار النشر سيلپس8 في فرنسا كتابًا للكاتبة والناشطة النسوية الأمريكية بل هوكس، وهو كتاب “تعليم التجاسر: التعليم كممارسة للحرية”9. وترجمه الناشر إلى اللغة الفرنسية بصياغة إنشائية غير متحيزة جنسيًا بالاعتماد على هذا الدليل، وقد كتب في صفحته الأولى التنويه التالي: 

“إن أنصار النضال ضد النظام الأبوي من محررين ومحررات سيلپس قرروا تَبنِّي كتابة خالية من التحيز الجنسي وتحترم التمثيل الچندري قدر المستطاع. وقد يزعزع هذا التغيير بعضًا مما اعتدنا عليه واعتاد عليه قُرَّاءنا وقارئاتنا. كان هذا تعلَّم للصياغة بأسلوب كتابة شاملة، لذلك لن يكون خاليًا من الأخطاء ولا من التعديلات المتتالية. ما تبنيناه في كتابتنا مستوحى من كتاب دليل القواعد النحوية غير المتحيزة جنسيًا والشاملة لمايكل ليسار وسوزان زاكور”. 

وقد جاءت ترجمة الكتاب سَلِسة غير ثقيلة وبصياغة يمكن أن يفهمها القارئ والقارئة بدون أن يكونا قد قرأا دليل مايكل وسوزان، فعند ورود كلمة جديدة كانت المترجِمة تضع لها تفسيرًا في الهامش السفلي للصفحة مما يجعل القارئة والقارئ قادرين على فهم النَص، بل ويتعلمان الكثير من القواعد اللغوية التي أرستها سوزان ومايكل في دليلهما. 

بل هوكس المناضلة النقدية 

دعوني أتحدث قليلًا عن بل هوكس مؤلِّفة الكتاب لأن لها واقعة وثيقة الصلة بموضوع هذا المقال وقضيته الأساسية، هي ناشطة ومُنَظِّرة نسوية اشتراكية أمريكية من أصول إفريقية، وأكاديمية حيث عملت كأستاذة بالجامعة في تدريس اللغة الإنجليزية والدراسات الأنثربولوجية والدراسات النسوية. كان نضال بل هوكس الأساسي مُنصَبًا على مناهضة التمييز والعنصرية على أساس الجنس، والمتقاطع مع كل من التمييز على أساس العرق والطبقة الاجتماعية. فقد عاشت طفولتها بالكامل في عهد الفصل العنصري مما أثر فيها وخلق بداخلها الوعي بضرورة الكفاح ضد كل أشكال العنصرية. وقد قدمت بل تعريفًا للنسوية، حيث قالت: “النسوية بكل بساطة هي حِراك من أجل وقف كل تحيز واستغلال واضطهاد على أساس الجنس”، وتضيف في كتابها “النسوية للجميع” فتقول: “إنني أحب هذا التعريف لأنه لا يَعتبِر الرجال هم الأعداء، فبجعل التحيز الجنسي هو المشكلة يجعلنا نصل مباشرةً إلى جوهر القضية. ومن الناحية العملية فبواسطة هذا التعريف يتم اعتبار كل الأفكار والممارسات التي بها تحيز جنسي هي المشكلة، سواء كان الذي يرسخها بترسيخها امرأة أم رجل، طفل أم راشد”.10 

من أبرز الأشياء على الإطلاق التي شكلت وعي بل هوكس كان كتاب “تربية المقهورين”11 للمربي والفيلسوف والمناضل البرازيلي پاولو فريري، فقد قرأته وهي في أولى سنواتها الجامعية حوالي عام 1970. ومما لا شك فيه أن تربية المقهورين ساعدها على الوعي بمواضع القهر المختلفة وضرورة التغيير المجتمعي، ولكن من ناحية أخرى فقد ساعدها الكتاب بقوة في أسلوب العمل الجماهيري، إذ يتم توعية الناس بالقضية النسوية من خلال المناقشة وليس من خلال الأسلوب التلقيني الذي كان يسميه فريري “التعليم البنكي”، فكانت بل هوكس تناقش الناس حول النسوية بنهج تربوي من المنظور الفريري للعمل العام والسياسي، والذي فيه يحترم الناشط أو الناشطة أفكار الناس ولا يتعالى أو تتعالى عليها أو يقوم أو تقوم بمهاجمتهم أو بوصفهم بالمتخلفين والجهال مهما كانت أفكارهم رجعية أو حتى عدائية تجاه القضية الحقوقية المطروحة. كانت بل تسلك أسلوب المناقشة وليس المخاطبة أو المناظرة، ففي المناقشة لا يتحدث طرف من منطلَق معرفي فوقي ولا يسعى لإقناع المخالف أو المخالِفة له بالغصب والإجبار أي بالقهر بالمفهوم الفريري. هذا كان أسلوب بل هوكس في العمل الجماهيري حتى مع مَن لديهم موقف عدائي مع الحركة النسوية والنسويات أو حتى مع جنس النساء برمتهم، وما هو أكثر من ذلك أنها كانت تحاول معرفة العوامل والأسباب التي شكلت وعي الذكوريين وجعلتهم يكرهون النسويات والحركات النسوية. وتلك هي الفلسفة التربوية النقدية التي أرساها فريري والتي يُمكن العمل بها بشكل شمولي في جميع حقول “التكوين”، إن كان تكوين معرفي أو تكوين وعيِّ أو تكوين أخلاقي، مع الطلبة والطالبات في غرفة الدراسة أو مع الجماهير في المجتمع. 

بل هوكس وپاولو فريري 

المفارقة المدهشة أن بل هوكس عندما قرأت كتاب “تربية المقهورين” وجدت فريري يستبعد النساء تمامًا من عملية النضال من أجل التغيير المجتمعي، بل وجدته يخص الرجال وحدهم بهذا الدور ويمحو نصف المجتمع بأكمله من الوجود. فعلى سبيل المثال وجدته عبارات مثل: “الرجال هم الذين يحدثون التغيير – تعليم الرجال المقهورين من أجل حريتهم – الرجال هم القادرون على القيام بهذا الدور التعليمي – الكلمة هي الوسيلة التي يغير بها الرجال العالم – … إلخ” وهذا قد أزعج بل هوكس للغاية وجعلها تشعر بشيء من التناقض وعدم الاتساق عند پاولو فريري بالرغم من تَعلُّمها الكثير من الأفكار الواردة بالكتاب، إذ تقول Yن برغم قيمة الكتاب لكن من ناحية أخرى فهو يدعم الاضطهاد على أساس الجنس ويعمل على ترسيخه. 

إن في واقع الأمر فريري لم يقصد إطلاقًا أن يخص الرجال دون النساء، ولكن كل ما في الأمر أن كلمة “رجال” في اللغة البرتغالية -وهي اللغة الأم للبرازيليين- تعني وتشمل الرجال والنساء معًا، فعندما تُرجِم النَص للإنجليزية تُرجِمت هذه الكلمة إلى men وليس إلى men and women. 

ثم جاءت الفرصة الذهبية لبل هوكس لتلتقي بفريري عندما دعته جامعتها لإقامة ورش عمل مع الطلبة والطالبات، فعندما علمت بالخبر سارعت بالحضور بكل لهفة وذلك لغرامها الشديد بأفكار فريري من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تطرح عليه ملاحظتها السلبية بشأن كتابته المتحيزة للرجال. وبالفعل وجهت له سؤالًا عن سبب التحيز الجنسي في كتابته، هنا وفي التو حاول زملاؤها إسكاتها لعدم رغبتهم في أن تنساق المحاضرة المخصصة للتحدث في قضايا التعليم إلى القضايا النسوية، ففي هذه اللحظة تدخَّل فريري على الفور لإسكاتهم طالبًا منهم أن يتركوا بل لتُكمِل سؤالها، وقال لهم إن لديها كل الحق أن تسأل، وأنني دائمًا في كتاباتي أقول إنه يجب على الطلاب أن يسألوا، فلا أريد لأحد منكم أن يمنع غيره في أن يطرح عليّ أسئلة تخص أعمالي حتى لو كانت أسئلة محرجة.12 

كان هذا الموقف مؤثرًا للغاية في شخصية بل هوكس لأنها وجدت فريري يمارس عمليًا ما يقوله في كتبه، وتروي تفاصيل تلك الواقعة ومدى التأثير الذي صنعه پاولو فريري فيها في كتابها “تعليم التجاسر” وهو الكتاب الذي تُرجِم للفرنسية بصياغة خالية من التحيز الجنسي. وقد أجاب فريري على بل هوكس بعدما أتمت سؤالها متفقًا معها في ملاحظتها وقال إنه بالفعل قد بدأ يتجاوز هذا العيب اللغوي.  

فريري يثور على نفسه ويناضل ضد ذكورية اللغة 

في كتاب “تربية الأمل” الذي كتبه پاولو فريري عام 1994، تحدث بشكل خاص عن قضية عنصرية اللغة وروى لنا خبرته الشخصية معها، فقال في مطلع حديثه إنه مدين لعدد لا يحصى من النسويات الأمريكيات اللاتي أرسلن له خطابات بعد شهور من صدور الطبعة الأولى الإنجليزية من تربية المقهورين، والتي تلقاها في منفاه في سويسرا في نهاية 1970، إذ قلن أنهن يرين كتابه عظيم ويُمثِّل لهن إسهامًا في نضالهن، لكنهن في الوقت ذاته رأينه يحمل تناقضًا كبيرًا، فهو يندد بالقهر والاضطهاد ويتحدث عن سبل التحرر من الهياكل القمعية، ومع هذا يُقصي النساء تمامًا من الوجود، فقمن بسؤاله في خطاباتهن قائلات: “ولماذا لا يحدث التحرر من قبل النساء أيضًا بمشاركة الرجال؟!”13 

فيقول لنا فريري أن عند قراءته لهذه الخطابات أصيب بالصدمة، ثم أخذ يتحاور مع ذاته ويناقشها حول القاعدة اللغوية التي تعلمها في المدرسة، فأخذ يتساءل: لماذا إذا قلت “النساء” فلا يشمل هذا الرجال أيضًا؟ ماذا سيكون رد فعل الرجال عندما يسمعون ذكر النساء دون ذكرهم؟ وظل هكذا يطرح على نفسه مزيدًا من التساؤلات ويجب عنها، وفي النهاية يتساءل مستنكرًا كيف يمكن للفرد أن يعطي تفسيرًا لقاعدة المذكر يشمل الإناث إلا بمنطق أيديولوجي؟ 

كانت هذه الانتقادات نقطة فارقة في شخصية پاولو فريري، فأصبحت كتبه اللاحقة مكتوبة بصياغة إنشائية راعى فيها ذكر النساء والرجال على حد السواء، بل ما هو أكثر من ذلك فكتابه “تربية المقهورين” الذي كان قد صدر بالفعل، عندما نفذت طبعته الأولى عدَّل الصياغة الإنشائية له لتكون الطبعات الجديدة خالية من أي تمييز أو تحيز جنسي. لم يتوقف عند هذا بل وبات يتحدث حول تلك القضية -قضية العنصرية في قواعد اللغة- في السيمنارات ويكتب عنها في الكتب ويحث على ضرورة العمل تغييرها. ففي باراجواي عام 1992 عُقِد سيمينار لپاولو فريري كان موضوعه التعليم الشعبي في دول أمريكا اللاتينية، ففي رده عن سؤال عن دور المرأة وقضايا الجندر قال: “إن الكثير منا نحن الرجال التقدميون يناقض نفسه، فخطابنا تقدمي ومع ذلك لدينا تحيز جنسي. يوجد تناقض جسيم حتى في استخدامنا للغة، فما زالت لغتنا متأصلة في التوجه الذكوري، ويقولون لنا إنها مسألة قواعد نحوية، لكنها ليست هكذا على الإطلاق. على سبيل المثال كيف يمكننا تفسير أنه عند تواجد عدد كبير من الناس في هذا المكان ولنفرض كلهن من النساء، ويوجد رجلٌ واحدٌ فقط، لماذا يجب عليّ أن أخاطبكم بقولي todos (التي تعني كلمة “الكل” المذكرة وبالفرنسية tous) وليس todas (التي تعني “الكل” المؤنثة وبالفرنسية toutes)؟ لماذا؟ أرجوكم لا تقولوا لي لأن عند تواجد رجل وسيدة يتم استخدام المذكر، من هو واضع هذه القاعدة؟ ليس لها سوى تفسير واحد: إنها تلك الأيديولوجية المتحيزة جنسيًا التي تُعلن عن نفسها بطريقة غير محايدة من خلال اللغة. إذن نحن في حاجة للقيام بثورة أيضًا في اللغة. إن كنا نسعى لتغيير العالم فعلينا إعادة إنشاء لغة لم تعد متحيزة بعد. قد تقولون لي يا پاولو إن بلادنا تعاني من الاستغلال وبلدك البرازيل غارقة في الفقر وأنت تحدثنا عن ضرورة تغيير اللغة! فلنعمل على تغيير هذا العالم أولًا ثم ننظر بعد ذلك لهذه الأشياء. لكني أقول لكم لا، إن تغيير لغتنا هو جزء من تغيير العالم، وتغيير ثقافتنا هو جزء من تغيير العالم، ولا ينبغي لنا الانتظار حتى نقوم بذلك”.14  

وفي سيمنار آخر له في الأرجنتين عام 1996 عن التربية النقدية تفوَّه في حديثه قائلًا: “الرجال والنساء” بشكل إطنابي، فبرغم أنه يتحدث بلغة فيها كلمة الرجال تعني الرجال والنساء، إلا أنه أصر أن يقولها هكذا، ثم استطرد ليفسر للحاضرين قيامه بذلك قائلًا: “إنني دائمًا أقول (الرجال والنساء) لأنني تعلمت منذ سنوات وأنا أعمل مع النساء أنه من غير الأخلاقي أن أقول “الرجال” فقط. عندما كنت صبيًا في المدرسة تعلمت شيئًا آخر: فقد تعلمت أنه عندما أقول “رجل” فهذا يشمل النساء أيضًا، لقد تعلمت ذلك في القواعد، تعلمت أن المذكر يسود، بمعنى أنه إذا كان كل المجتمعين معنا هنا من النساء ثم ظهر رجلٌ واحدٌ، يجب عليّ عند الإشارة إليكم أن أقول todos وليس todas. إن الذي يبدو وكأنه مسألة قواعد نحوية ليس هكذا على الإطلاق، إنها مسألة أيديولوجية، وقد أخذ مني الكثير من الوقت لاستيعاب ذلك، كنت قد كتبت بالفعل تربية المقهورين، فإذا اطلعتم على الطبعات الأولى من هذا الكتاب ستجدونها مكتوبة بلغة بها تحيز جنسي. النساء في أمريكا جعلنني أرى أنني كنت مشوهًا بأيديولوجية التحيز الجنسي”.15 

للمفارقة أن فريري الذي يقول تلك الكلمات كان يعمل معلمًا للغة البرتغالية، بمعنى أنه ظل يُقدِّم لطالباته ولطلابه هذه القاعدة بدون أن تلفت انتباهه قط، برغم أن هذا الرجل كان يلاحظ أدق مواضع القهر المتضمَنة في المقررات الدراسية ويكشفها لنا! لذلك فإنه مدين بالشكر لهؤلاء النساء لأنهن جعلنه يرى كيف تَسكن الأيديولوجيا داخل اللغة. 

ثم يوجه رسالة إلى دور النشر طالبًا منهم أن يتغلبوا على الكتابة بلغة متحيزة جنسيًا، ويحذرهم من أن يقولوا أنها مسألة بسيطة، إذ يقول إنها ليست ببسيطة على الإطلاق بل إنها مشكلة كبيرة، ويؤكد لهم ولنا أن تغيير أسلوب الكتابة اللغوية المنحازة جنسيًا هو جزء من تغيير العالم.16 

إن هذه الأمنية التي أعلنها فريري في كتاب يدعونا فيه إلى “تربية الأمل” نراها تتحقق في أيامنا هذه من خلال كتاب سوزان ومايكل، ومن خلال إصدار كتاب لبل هوكس المناضلة النسوية التي انتقدت فريري لكتابته المتحيزة، وللمفارقة أن بل هوكس  في كتابها “تعليم التجاسر” تدعو المعلمين والمعلمات إلى ممارسة تعليمية تدفع الطلبة والطالبات على تجاوز أنظمة الهيمنة الثقافية السائدة، وهذا ما قام به مايكل وسوزان في كندا والمحررون والمحررات في دار سيلپس الفرنسية، بتجاسرهم وتجاوزهم للكتابة الإنشائية السائدة. 

السؤال الذي يمكن أن نطرحه الآن: هل يمكننا تغيير أسلوب كتابتنا الإنشائية في اللغة العربية ليصبح خاليًا من التحيز الجنسي؟ 

قد يحتاج هذا إلى التجاسر، وإلى الأمل أيضًا. 


الهوامش:

1 https://en.suzannezaccour.com/

2

https://www.law.utoronto.ca/graduate-programs/sjd-program-doctor-juridical-science/sjd-profile/micha-l-lessard?fbclid=IwAR0SFqWDEIdWChS62w_pRJUeTaD20NCj4BJsVdLKsDAQoJQyJFUTkF0GP7w

3

Manuel de grammaire non sexiste et inclusive – Le masculin ne l’emporte plus!

https://www.syllepse.net/manuel-de-grammaire-non-sexiste-et-inclusive-_r_62_i_716.html

https://www.academie-francaise.fr/

http://siefar.org/wp-content/uploads/2015/09/Histoire-dautrice-A_-Evain.pdf

6https://archive.org/details/20190510105453/Andry%20de%20Boisregard-%20Reflexions%20sur%20l%E2%80%99usage%20present%20de%20la%20langue%20fran%C3%A7oise%201689/

7

La Société Internationale pour l’Étude des Femmes de l’Ancien Régime (SIEFAR)

http://siefar.org/la-guerre-des-mots/les-mots-de-a-a-z/

https://www.syllepse.net/8

9Bell Hooks:Teaching to Transgress – Education as the Practice of Freedom

Bell Hooks: Feminism is for everybody – Passionate politics (p. 1)10

Paulo Freire: Pedagogy of the Oppressed11

Bell Hooks:Teaching to Transgress – Education as the Practice of Freedom (p. 55)12

Paulo Freire: Pedagogy of Hope Reliving Pedagogy of the Oppressed (p. 66)13

Paulo Freire: Pedagogy of Commitment (p. 88)14

Ibid. (p. 10)15

Paulo Freire: Pedagogy of Hope Reliving Pedagogy of the Oppressed (p. 67)16

This Post Has One Comment

  1. Sara amri

    مقال رائع

اترك تعليقاً