آرثر دانتو: الترجمة والخيانة

آرثر دانتو: الترجمة والخيانة

مقال ﻵرثر دانتو*

نشر في سبتمبر 1997

ترجمة: أمير زكي، زينب أبو علي، ندى غانم، سهام شاهين، داليا نظمي، مريم عليوة، زينب ربيع، عاصم أبو السعود

* آرثر دانتو (1924 – 2013): ناقد فني وفيلسوف أمريكي وأستاذ في جامعة كولومبيا، أشهر كتبه “ما بعد نهاية الفن”.

جرت الترجمة ضمن أعمال مختبر سيلاس السابع والثامن للترجمة بالقاهرة 2021 و2022

الترجمة خاصة بترجمان وسيلاس القاهرة


تتسم عبارة “المترجم خائن” Traduttore traditore بالتأكيد الذاتي؛ وإننا لنخونها بترجمتها. ربما تكون عبارة “المترجم خائن” صحيحة كفرضية، لكن العبارة “الإنجليزية” تحتاج إلى برهان، بينما الإيطالية متجذرة في تبدل الحروف الصائتة، ويلعب اللسان مع تغير المعنى الذي يفرضه تغير طفيف في النطق. الأمر أشبه بزلات اللسان الماكرة التي وصفها فرويد، حيث تخون (أوه!) استعارات وأشباه الاستعارات بعض الروابط المختبئة في ظلمات اللاوعي. لعل العبارة الإيطالية تخون بنفس الطريقة شيئًا في اللاوعي الثقافي في إيطاليا، يتردد صداه في الحياة السياسية والكنسية في هذا البلد، حيث تكون الخيانة، كالظل، بمثابة الوجه اﻵخر للثقة. إنه اللاوعي المحفورة فيه عميقًا دروس ميكيافيللي. ما من أحد تمثل الإنجليزية لغته الأولى سينجذب إلى المساواة بين الترجمة والخيانة. فهل الربط بينهما في الإيطالية يمثل مصادفة للغة أو للتاريخ الثقافي في إيطاليا، الذي يستغل تبدل الحرف الصائت ليكشف شيئًا داخليًا في فعل الترجمة؟ لدى أندرو مارفل بيت شعري يؤكد زعمي عن الإنجليزية: 

لص الترجمة هذا الذي يضيف

بقدر ما يأخذ من متجر الكاتب الأصلي

يصدر مارفل تحذيراً محدداً بشأن المترجم الذي يخون المؤلف بإضافة كلماته أو كلماتها، مما يعني إضافة أفكاره أو أفكارها إلى نص مكتوب بلغة يجهلها قراؤه، مما يجعلها تبدو وكأنها أفكار المؤلف. لكننا لن نطلق على أمثال هذه الأفكار “ترجمات”، إنما خداع المترجم هو الذي سيجعلها تبدو كذلك. هكذا يكون المترجم خائنًا تحديدًا حين يكون غرضه الخداع بالتحديد (خداع من هذا النوع ومن أنواع عدة)، الخداع الذي يحل أي رابط مباشر بين الترجمة، حين تكون مشروعة، والخيانة. في بيت مارفل الشعري، يقال هذا رفضًا للترجمة، هكذا يمكن أن تصاغ رؤيته، بطريقة ما، كالتالي: “سوء الترجمة خيانة” في حال لم تكن المسألة مجرد مسألة ارتكاب خطأ بسيط في اللغة، وإنما زرع خطأ لجعل النص يعني شيئًا مختلفًا عما يقصده الكاتب. تقدم أبياته شرطًا (من ضمن شروط عديدة) لقواعد سلوك المترجمين. ولكن ما من تلميح، كما في الحروف الصائتة الإيطالية المجردة، إلى أن الترجمة في ذاتها تمثل انتهاكًا لإحدى القواعد الأخلاقية.

عندما انقلب بوتوم حمارًا، هتف بيتر كوينس “كم أنت مسكين يا بوتوم! لقد انمسخت” (وبترجمة حرفية “لقد ترجمت” – مسرحية حلم ليلة في منتصف الصيف، الفصل الثالث، المشهد اﻷول، السطر 124). وجد بوتوم في “انمساخه / ترجمته” أنه تحول إلى شيء ستقع الملكة المسحورة تاتيانا في غرامه معلنة حكمته التي تضاهي جماله. إن السحر الذي مسّها جعلها تهيم بحب أول مخلوق تراه حين تستيقظ من النوم، لذا ربما كان من السهل أن يجعلها ذلك ترى بوتوم على حقيقته جميلاً ومحبوبًا وحكيمًا -مع أن ذلك ليس متوقعًا بالنسبة له كما أنه ليس متوقعًا لفلاح أخرق ودود أن يصبح حمارًا، فهل الترجمة تخون أم أنها تكشف ما كان موجودًا طوال الوقت باعتبارها نوعًا من المجاز السعيد؟ على أية حال، وحيث أن عدم اﻹخلاص في الزواج خيانة، سيشعر الملك بالقلق عندما تحب ملكته فلاحًا وربما تستنفر كل مخاوفه الجنسية، لكن لا يمكن للمرء -وإنني واثق أن أرسطو قال شيئًا كهذا- أن يغار من حيوان!

تتطابق حالة بوتوم بنيويًا على نحو كبير مع الترجمة -بوصفها العبارة ذاتها بجمل مختلفة- إذا فسرنا تعبير بيتر كوينس المذكور، باعتبار أن بوتوم أصبح الشخص ذاته في هيئة مختلفة (أو كما يقول / تقول بطل رواية أورلاندو لفرجينيا وولف بهدوء أثناء مطالعة المرآة، “نفس الشخص، لكني أنثى اﻵن”). تقع الفرضية -تميز الجملة، رغم كل الشك الميتافيزيقي في الفرضية باعتبارها متجاوزة للغة- في القلب من النظرية المنطقية، وهي ممثلة ببساطة في المثل اﻹيطالي الذي افتتحنا به المقال ونفقد معناه بترجمته إلى اﻹنجليزية. فرضًا لو تحدثنا عن مترجم بعينه، فمن الممكن أن نطبق عليه مقولة “المترجم الخائن”، مع الوضع في الاعتبار شخصًا كالذي تحدث عنه مارفل، كانت لتصبح في الإيطالية “Traduttore Traditore” فرضية منفردة تشير ضمنيًا إلى مترجم متعمد التضليل. خارج سياقه يصبح المثل عالميًا، مضمن مجددًا بالجناس، بينما سيضع متحدث اﻹنجليزية في اعتباره وجود عيبًا ما في الترجمة في حد ذاتها بغض النظر عن الترجمات الفردية. إذا فكرنا في الفرضية باعتبارها روح والجملة بصفتها جسد، تشير حالة بوتوم إلى ما يمكننا دعوته بلحم اللغة. يختلف لحم اللغة اﻹنجليزية عن لحم اللغة اﻹيطالية، ربما يختلف بعمق كاف إلى درجة أن التغير من أحدهما إلى اﻵخر هو تحول رهيب كانقلاب بوتوم إلى حمار (كلمتا بوتوم Bottom وآس ass مترادفتان في اﻹنجليزية المعاصرة، لكن علينا أن نبحث كي نعرف إذا ما كان هذا الترادف كامنًا بين السطور عندما كتب شكسبير مسرحية حلم ليلة في منتصف الصيف). وعلى الجانب اﻵخر، نعرف جميعًا أن حب نصًا بعينه -لنقل قصيدة- الذي مهما كانت ترجمته ممتازة لا يؤثر في قارئها، ففي النهاية، الجسد هو ما نغرم به، واكتشاف الروح لا يأتي إلا بعد أن يسكن الجنون.

أهذا ربما يدعم التعريف الإيطالي للترجمة بالخيانة؟ لكن قد يتعلق الأمر بشحم النص أكثر من معناه، وفي النهاية نحن لا نقع في حب كل جزء من نص نثري أو شعري. سيكون من السخف تخيل أنه يتحتم على المترجمين إثارة نفس اﻷحاسيس التي يشعر بها القراء في لغة التلقي كما يشعر بها القراء في اللغة اﻷصلية. وعلى أي حال، تنفذ القصيدة المحبوبة إلى الثقافة التي خرجت منها، لذا فإن مشاعر الفرد مرتبطة بطرق غير متاحة ببساطة إلى هؤلاء الذي ينتمون إلى ثقافات أخرى، حتى ولو نُقلت الكلمات بصورة مثالية. لكن للشعر حالة شديدة الخصوصية، يأتي دليلي الشخصي لاستخدام وحدة كومباك المحمولة لزيادة سعة التخزين في سبع لغات، يُفترض أن كل منها يوضح نفس الرسالة عبر أسلوب نثري واضح، أو الحد الأقصى من الوضوح الذي يمكن أن يصل إليه كتيب إرشادي. وما تفقد النسخة الإيطالية أو الفرنسية للتأكد إذا ما كان ذلك صحيحًا إلا بمثل حالة فيتجنشتاين في تفقد الصفحة الرئيسية عبر مطالعة النسخة الثانية من الجريدة نفسها. من المستبعد أن تخون ستة نسخ النسخة السابعة، مع الافتراض أنه يمكننا تمييز النسخة الأصلية، أو أننا نريد ذلك من الأساس. يتيح دليل الجهاز لمتحدثي سبع لغات أن يحظوا بنفس المعرفة، ألا وهي طريقة عمله.

تسيس عبارة “المعرفة قوة” المعرفة إلى حد ما، مثلًا عندما يعرف شخص ما معلومة، فهي تمنحه امتيازًا قد يخسره إذا شاركها. لو كانت الإرشادات الملغزة لوحدة كومباك (السعة المحمولة لزيادة سعة التخزين) اقتصرت على اللغة الإنجليزية، فلسوف يحظى قارئ الإنجليزية بامتياز على حساب قارئ الإيطالية، حيث لن يتمكن اﻷخير تعلم طريقة استخدام الجهاز ما لم يطلعه قارىء للغة الإنجليزية على مضمون الدليل، أو في أحسن الظروف، سيتقاضى أجرًا لقاء تشغيل الجهاز. لنفترض أنه ينتمي إلى جماعة تحتكر هذه المعرفة، لكنه قرر لأسباب معقدة ترجمتها للإيطالية، كاسرًا حالة الاحتكار من خلال مشاركة السر، فسوف يعتبر هذا مماثلًا للخيانة التي اقترفها بروميثيوس، حينما سرق النار من الآلهة لتدفئة البشر المساكين المرجفين من البرد. لكن بصفة عامة، إذا نشرت معرفتي بين اﻵخرين، فسأفقد نفوذي إن تمكنوا من استغلالها لصالحهم ضدي. انبهرت ابنتي التي كانت تعمل في الحكم المحلي بحقيقة أن الجميع يكذبون دائمًا عندما توجه إليهم أسئلة، حتى وإن كانت حول أبسط التفاصيل، مثل رقم غرفهم. يصحب امتلاك المعرفة تساؤل “لماذا يتوجب عليّ إخبارك بالحقيقة؟”، لأنها تمنح المرء تأثير السلطة الهزيلة التي في حوزته. فلو إنك عرفت ما أعرف لتبدد نفوذي.

أشعر بأن هذا المقصود حتمًا من عبارة المترجم خائن Traduttore traditore في السياق اﻹيطالي. تعد أي لغة سرية مصدر قوة طالما ظلت سرًا، وإني أكشف السر من خلال الترجمة، فأضع المعرفة والقوة في أيدٍ غريبة. وما النموذج الجلي لذلك إلا ترجمة القداس اللاتيني للعامية -إلى لغة رجل الشارع، وبالتالي تفشي سر معناها أو تتيحه. والنموذج المعتدل لذلك هو أن القوة، بشكل أدائي، مقيدة بسحر الكلمات -التي أصفها بأنها “شحم اللغة”– وأن المرء يخون تلك القوة حين يصيغها بكلمات أخرى، لا تمتلك القدرة على استدعاء نفس القوة لأنها كلمات خاطئة، حتى وإن كانت مترجمة بدقة. عندما أتلقى تَوجِيهات عبر الهاتف لقول “واحد” باللغة اﻹنجليزية One لتسجيل اختيار، قطعًا لن يجدي قول “واحد” باللغة اﻹيطالية Uno نفعًا، ﻷن القدرة على تفعيل إشارة مرهونةً بالتحدث بالإنجليزية بحيث تصبح الترجمة بلا معنى في مهمة تسجيل الاختيار ما لم تصر خدمة الصوت متعددة اللغات. لكن إذا كانت للغة اللاتينية أي قوة، فتلك القوة لن تظهر في الترجمة، فهي تعطينا المعنى لا القوة، ولا تنفذ تلك القوة إلا في أفواه القساوسة.

لا بد وأن من يصدقون أن المترجم خائن يوافقون ضمنيًا على النظرية اﻷكثر بدائية التي تقول بأن ثمة قوة في الكلمات وأن تلك القوة يمكن أن تنتقل عند ترجمتها إلى كلمات مختلفة، لذا يجب أن تحيط المحظورات باللغة كما من المتوقع عندما ننتقل من الحقيقة إلى أدائها. تمثل “الخيانة” كلمة قوية لوصف سلوك المترجم الذي بمعرفته للغة لا بد وأن يكون داخل الدائرة السحرية للعارفين بها والذي بترجمته لهذه اللغة يفتح تلك الدائرة للعامة. نجد هذا بطريقة ما في أساليب نثرية معينة، كما تمارس في النقد الفني أو في الكتابة الفلسفية، عندما تحصن كلمات المرء بغابة من الرموز المنطقية، أو باستعمال مصطلحات لاتينية في تسمية الأمراض، وبمعرفتها يشخص الطبيب في صورة مزحة طبية خاصة اعتلالات امرأة باعتبارها “انتصاب قضيب متكرر Penis erectus repetiteur”. إنها مزحة عنصرية جنسيًا، ﻷسباب ليس أقلها أنه لا ينبغي على المريضة معرفة اللغة المستخدمة، وهو يعطي لنفسه سلطة خاصة في استخدام الاصطلاحات التي تكتب بها الوصفات.

في عالمنا اليوم، أصبح للكتابة اﻷكاديمية أبعادًا من عدم الوضوح تتطلب جهودًا هيرمينوطيقية لقراءاتها، وكأنها كتبت ليقرأها هيرمينوطيقيين بعينهم. وحيث أن هذه هي قاعدة القوة والسلطة، فإنه من الخيانة ترجمة هذه النصوص إلى نثر واضح، ﻷن سلطتها وقوتها ستختفيان، وإن المترجمين -بطريقتهم- طائفة كهنوتية ذات احتكارات نصوصية!

اترك تعليقاً