أناركية ومشاعية: تدقيق ترجمة المصطلحات

أناركية ومشاعية: تدقيق ترجمة المصطلحات

أناركية ومشاعية: تدقيق ترجمة المصطلحات

مقال لحسين الحاج

المقال خاص بترجمان

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.


منذ أوائل القرن العشرين، استقرت مصطلحات السياسة الحديثة في اللغة العربية عبر مهنة الصحافة التي انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر، فصار المثقفون الشوام والمصريون يعرفون ما الجمهورية والبرلمان والدستور.. إلخ. وأكثر من ذلك عرفت الصحافة العربية العقائد السياسية مثل الليبرالية -التي سميت بمذهب الحرية قبل أن تكتب بحروف عربية- والاشتراكية والارتجاعية -والتي قُصد بها الاتجاه المحافظ. في هذا المقال أقدم مراجعة تاريخية مفاهيمية لمصطلح اﻷناركية الذي نقل إلى العربية خطأ وأقترح ترجمة جديدة لبعض المصطلحات المستحدثة على جانب اليسار، ﻷن النقاشات التي تدور حول معاني المصطلحات في الغرب قابلة للانعكاس عند ترجمتها في لغتنا العربية، لذلك يجب علينا أن نراجع كل قديم مألوف ونتابع كل جديد مستحدث.

فوضوية أم لاسلطوية؟ لا هذا ولا ذاك!

من بين تلك العقائد السياسية التي تناولتها الصحافة العربية في أوائل القرن العشرين كانت الفوضوية والتي استعملت كترجمة للأناركية anarchism. ولطالما اكتسبت اﻷناركية في الغرب سمعة سيئة بسبب عمليات الدعاية الثورية عن طريق أعمال العنف propaganda of the deed التي نفذها الكثير من اﻷناركيين في القرن التاسع عشر قبل أن يبدأوا في مراجعة جدواها لاحقًا. كانت تهمة الفوضوية جاهزة للرد على ما اشتهر به اﻷناركيون وقتها من عنف وتحريض، حتى أن المنظر اﻷناركي الروسي بيتر كروبوتكين كتب مقالاً يرد فيه على الاتهام الموجه للأناركيين بإشاعة الفوضى يقول فيه:

غالبا ما نلام الآن على قبولنا بكلمة “الأناركي” كلقب يثير الخوف عند الكثيرين بشكل كبير. يقولون لنا، “إن أفكاركم ممتازة، لكن يجب أن تعترفوا أن اسم حزبكم خيار غير موفق”. إن الأناركية في اللغة الدارجة مرادفة للاضطراب والفوضى، ﻷنها كلمة تعيد إلى الأذهان فكرة نزاع المصالح والصراع بين الأفراد الذي لا يمكن أن يؤدي إلى إقامة الوئام.

وقد أوضح لاحقًا الروائي اﻷمريكي كين ستانلي روبنسون سبب هذا الترادف بقوله:

اﻷناركية: أهي نفي للحكم أم نفي للقانون؟ يقترح اﻷصل اليوناني المعنى اﻷول، بينما يقترح الاستخدام اﻹنجليزي الشائع منذ القرن السابع عشر المعنى اﻷخير، والفارق يكمن في اختيارك لأي من المعنيين.

إذن اﻷناركية بصفتها نفيًا للقانون هي الفوضى، لذا نستطيع أن نفهم لم هناك تقليد شائع بين اﻷناركيين عند تعريف اﻷناركية يتضمن إرجاعها إلى اﻷصل اليوناني، إلى درجة أن اﻷناركي اﻷسترالي سام بوكانان تمنى ذات مرة أن يأتي يومًا يستغنى فيه اﻷناركيون عن هذا التأصيل للأبد.

استدعى ذلك كله إيجاد طريقة أخرى لتعريف اﻷناركية وهي عن طريق ترجمتها ترجمة حرفية في اﻹنجليزية كي يرادفها مصطلح anti-authoritarianism وتبعهم في ذلك بعض المترجمون العرب المتأخرون بترجمتها باللاسلطوية. وهذا يبدو معقولًا، ﻷنها تؤكد على نفي الاعتقاد في مبدأ الحكم دون القانون، لكن بالنسبة لكثير من اﻷناركيين يظل المعنى ناقصًا، ﻷنهم يرون في اﻷناركية تأكيدًا إيجابيًا على الحرية وليس مجرد معنى سلبيًا لها يتمثل في نفي السلطة فقط، وهذا في رأيهم يعيدنا إلى مفهوم الفوضوية لأن اﻷناركية تعني بحسب كروبوتكين “تحقيق الانسجام في المجتمع… من خلال الاتفاق الحر الذي تتوصل إليه جماعات متنوعة” أيضًا. لذلك يتفق اﻷناركيون على اﻹبقاء على المعنى اﻷصلي كما هو.

تاريخيًا انتقلت ترجمة اﻷناركية بالفوضوية إلى اﻷدبيات اليسارية العربية، خصوصًا بعد سيادة الحزب البلشفي في الثورة الروسية، حيث أصبحت البلشفية عالميًا التجربة الرائدة في تحقيق الاشتراكية لعقود طويلة، فاكتسبت مصداقية في مواقفها تجاه خصومها من التيارات السياسية اﻷخرى، ومن بينها اﻷناركية.

مفاهيم جديدة تتطلب اشتقاقات جديدة

لم تكن هذه النظرة السلبية نحو اﻷناركية ما أخذته اﻷدبيات اليسارية العربية عن اﻵراء اللينينية، بل أنها أخذت التفرقة التي اعتمدها فلاديمير لينين بين الاشتراكية socialism والشيوعية communism، فالماركسية قبل لينين لم تفرق بين الكلمتين مطلقًا في كتاباته واستعملت الاثنين للتدليل على الشيء نفسه، بل استعملت مصطلحين آخرين للتدليل على مرحلتي الاشتراكية: المرحلة الدنيا والمرحلة العليا. ثم جاء لينين أثناء خلافه مع التيار الاشتراكي الديمقراطي الروسي واﻷوروبي وأطلق على المرحلة الدنيا اسم الاشتراكية وأطلق على المرحلة العليا اسم الشيوعية، ثم ادعى أن حزبه الشيوعي يهدف إلى بلوغ المرحلة العليا عبر تطويع أجهزة الدولة في تحقيق المرحلة الدنيا، ومن ثم تبعه الجميع في ذلك للأسباب اﻵنف ذكرها. وما حدث بعد انتصار البلاشفة في الثورة الروسية أن كلمة الاشتراكية أصبحت تشير إلى سياسات انتخابية أكثر بينما الشيوعية تشير إلى سياسات ثورية أكثر، أو أن الاشتراكية قابلة للتطبيق في الدول المتقدمة بينما الشيوعية صالحة للدول المتأخرة.. إلخ. تتضح مثل هذه التأثيرات اللينينية في الترجمات العربية  السياسية والاقتصادية التي أتت مباشرة من الاتحاد السوفيتي، فنجد كذلك التفرقة بين الشيوعية كنظام اقتصادي دولتي حديث كالذي يطبقه الاتحاد السوفيتي والمشاعية كمرحلة تاريخية قديمة يضاف إليها تعبير البدائية كي تؤكد أنها كانت موجودة قبل قيام الدول.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية عمومًا، لم يكن من السهل التحدث عن الشيوعية أو حتى الاشتراكية في اﻷوساط السياسية والثقافية، باعتبار أن ممثلها الرسمي الواقعي لم يكن سوى تجربة فاشلة. لكن الاقتصاديون والمنظرون من اليسار لم يكفوا عن ابتكار مصطلحات جديدة لوصف نماذج اقتصادية وسياسية مستحدثة يمكن أن يكون بديلًا للرأسمالية المعاصرة مثل نموذج الاقتصاديين مايكل ألبرت وروبرت هانل حول الاقتصاد التشاركي participatory economy. كذلك قدم المنظر اﻷمريكي موراي بوكشين المحلية المشاعية أو الكوميونالية communalism، ورغم أن كلمة communal عادة ما يقصد بها كل ما ينتمي للمجتمع المحلي إلا أن بوكشين قصد بمصطلحه استلهامًا شيوعيًا للدولة – المدينة كنموذج متجاوز لشيوعية الدولة اﻷمة الستالينية، يعيد بوكشين تقديم البلدة المشاعية (الكوميون) commune باعتبارها وحدة سياسية أساسية، يفضل أن تكون متحدة في نظام فيدرالي مع بلدات أخرى مماثلة، لكنها تظل وحدة متكملة في ذاتها. وعلى نطاق أصغر يقدم منظرو المشاعات commons مثل الاقتصادي اﻷمريكي ديفيد بوليار مصطلح المشيعة commoning، وهو مصدر عملية وفعل إنشاء المشاعات، ﻷن من مَشيع شيئًا جعله مشاعًا للناس. تختلف المشيعة عن المحلية المشاعية في أن البلدة المشاعية (الكوميون) مكونة من مشاعات commons متعددة على مستوى الموارد الطبيعية والصناعية والافتراضية.

حتى الحديث عن الشيوعية بمعناها اﻷممي عاد في صورة مصطلح جديد communization على يد مجموعة من المنظرين الماركسيين المتأثرين باﻷناركية الانتفاضية insurrectionary anarchism، ويقصد بها التحول الثوري المباشر نحو الشيوعية بدون مراحل انتقالية، يشبه هذا المصطلح مصطلح socialization الذي استخدم بعدما تحولت دول كثيرة باتجاه أنظمة الرعاية الاجتماعية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ونقل في العربية باسم سياسة التشريك والتحول الاشتراكي. يحتمل مصدر شَرَّكَ هذا الاشتقاق في كلمة تشريك، لكن تعدد المعاني في جذر شيَّع يفرض علينا استخدام عدد أكثر من الكلمات في ترجمة communization ولتكن سياسة التحول الشيوعي.

خاتمة

في كتابه “مدارات صوفية”، انتقد المفكر العراقي هادي العلوي “الشيوعية المترجمة” التي فرضتها اﻷنظمة الشيوعية في القرن العشرين، ودعا إلى ما أسماه “شيوعية القاعدة” واستعادة تراث المشاعية الشرقي الكامن في التصوف والعقائد الدينية الشرقية. أدرك العلوي ضيق التطبيقات الحديثة التي قدمتها تلك اﻷنظمة، فخرج إلى رحابة تاريخ ما قبل الحداثة الشرقي. ربما نحن بحاجة إلى ذلك، لكننا أيضًا بحاجة إلى تجديد مصادرنا وضبط مصطلحاتنا، ﻷن المصطلحات كائنات حية تنمو وتتكاثر وتحيا حيوات مختلفة، فعلينا بين كل حين وآخر أن نراجع ما نقل إلينا في سياقه التاريخي ونحدثه حسب فهمه الصادق كلما أمكن.

اترك تعليقاً