كيف تنوِّر الترجمة ذهن الكاتب؟

كيف تنوِّر الترجمة ذهن الكاتب؟

المترجم كمن يتكلم من بطنه ويتلون كحرباء

كيف تنوِّر الترجمة ذهن الكاتب؟

مقال ليديا ديفيس

ترجمة شيماء بدير

ليديا ديفيس (1947) كاتبة قصة قصيرة، وروائية، ومترجمة. كتبت ست مجموعات قصصية من بينها: «لا أستطيع ولا أريد»، و«الأعمال المجمعة لليديا دافيس»، ورواية واحدة بعنوان «نهاية القصة». تتميز دافيس بقصصها شديدة القصر والإيجاز، يطلق على ذلك اللون الميكرو بورتريه أو القصة «الخاطفة». معظم قصصها عبارة عن جملة واحدة فقط، أو فقرة قصيرة. ترجمت عن الفرنسية عدة روايات وأعمال فلسفية، أهمها «مدام بوفاري» لفلوبير، و«طريق سوان» لبروست. حصلت على منحة من مؤسستي جوجنهايم ومكآرثر، وكذلك جائزة المان بوكر الدولية عن سائر أعمالها. تزوجت من الكاتب الأميركي بول أوستر، وهي الآن متزوجة من الفنان آلان كوت.

النص مقتطف من كتاب ليديا ديفيس “مقالتان: حول بروست والترجمة واللغات الأجنبية ومدينة آرل” نشر في Lit Hub’s ٣ ديسمبر ٢٠٢١.


إن مشكلات الترجمة التي قد تكون واجهتها واستعصى عليك حلها، وربما لن تكون راضيا عن حلولها أبدا، ستبقى معك لفترة طويلة -ضع ذلك في الحسبان. قبل بضع سنوات، في يونيو، أثناء رحلتي إلى فرنسا، اصطحبني أصدقاء فرنسيون في رحلة لتذوق النبيذ في بلدة “بون” البورغونية الصغيرة جنوب “ديجون”. أثناء تذوق النبيذ، طُلب منا في لحظة ما أن -mâchez le vin “نعلك أو نلوك” النبيذ- لا أستطيع أن أتذكر الآن ما إذا كان ذلك في لحظة كان النبيذ في أفواهنا أو بعد أن ابتلعناه أو بصقناه. في ذلك الآن، عندما نطقت هذا العبارة، تأهبتُ وأُثيرت قرون استشعار المترجم داخلي على الفور: إن استخدام الفعل (mâcher – Chew /مضغ – عَلك) للدلالة على شيء لا يمكنك مضغه بالفعل، كانت مشكلة قضيت عدة ساعات في حلها أثناء ترجمتي لرواية “مدام بوفاري”، قبل حوالي سبع سنوات. وردت الكلمة في مقطع قريب من مطلع الرواية، عندما كان “تشارلز بوفاري” تقريبا ما يزال سعيدا في زواجه، ولم تكن “إيما” مضطربة بعد أو غير سعيدة بشكل واضح. يوضح هذا المقطع جيدا معاداة “جوستاف فلوبير” للرومانسية:

Et alors, sur la grande route qui étendait sans en finir son long ruban de poussière, par les chemins creux où les arbres se courbaient en berceaux, dans les sentiers dont les blés lui montaient jusqu’aux genoux, avec le soleil sur ses épaules et l’air du matin à ses narines, le coeur plein des félicités de la nuit, l’esprit tranquille, la chair contente, il s’en allait ruminant son bonheur, comme ceux qui mâchent encore, après dîner, le goût des truffes qu’ils digèrent.

والذي ترجمته إلى:

“ومن ثم انطلق حذاء طريق ممتد أمامه كشريط من غبار لا مُتناه، يمضي في دروب ملتوية من الأشجار الظليلة، وأزقة ضيقة يرتفع فيها القمح على جوانبها إلى ركبتيه.. الشمس تستلقي على كافيه، ونسيم الصباح يملأ منخاريه، وبقلب مفعم بما ناله في ليله من ملذات، وبطمأنينة تسري بين جوانحه، وراحة تدب في جوارحه، يواصل طريقه يجتر سعادته كمن يلوك، بعد غداء مهضوم، ما خلفه الكمأ من مذاق في فمه”.

أحب إعادة صياغة ترتيب الكلمات، وترتيب الأفكار في النص الأصلي كلما أمكن ذلك. أنهى” فلوبير” هذه الفقرة الغنائية بطريقة ما بكلمتي truffes / digèrent، وبعبارة أخرى، فإن البناء البلاغي في وصف السعادة الحسية الهادئة للرجل الواقع في الحب ينتهي إلى الهضم وفطر أسود كريه الرائحة. هكذا هو الحال عند “فلوبير”، يحب أن يخلق تأثيرا كتابيا تقليديا، رومانسيا أو عاطفيا، وبعدما نغرق جديا في الافتتان بما يقول، يعيدنا إلى الواقع بـ”جلطة”، لطمة مكتومة عبر تقديم صورة شديدة العادية لنا، ويفضلها أن تكون أرضية كذلك -الكمأة في هذا المشهد، والبطاطس في مشهد لاحق. 

لكن المشكلة بالنسبة لي كانت كلمة mâchent التي ترجمتها إلى “Chew مضغ/ لَك/ علك”، بالطبع أردت الاحتفاظ بفكرة اللَك، وخاصة أنها تلائم “الاجترار” العذب، الذي لا يمثل فقط كلمة سديدة وملائمة لأفكار تشارلي الخاملة، بينما يتمشى بحصانه، ولكنها أيضا إشارة مستترة أخرى إلى أحد استعارات “فلوبير” المفضلة -Bovine /منسوب للبقر ومتسم بالبلادة- والتي تظهر بشكل منتظم في أعماله، حتى في أسماء الشخصيات مثل” بوفاري” و”بوفارد”. 

لكن كيف يمكنك أن” تلوك” المذاق؟ 

ما لم أفعله -أثناء تذوق النبيذ في” بون” وكان سبب تأرقي في السرير عند عودتي إلى المنزل- هو سؤال لمرشدنا، الذي كان يساعدنا في جولتنا، عن كيف ترجم mâcher إلى الإنجليزية للزوار الناطقين بها وحسب، إذ لابد أن تكون هناك ترجمة مقبولة في عالم تذوق النبيذ على الأقل. 

ومع ذلك، قد أجابتني التجربة على سؤال واحد، كلمة mâcher، على عكس “chew /مضغ أو لَك” يمكن استخدامها في رأيي لشيء لا يمكنك مضغه. 

في الترجمة، أنت تطرح سؤالا على نفسك أو يطرحه عليك النص، وليس لديك إجابة مُرضية، ومع هذا قد أودعت الورق شيئا، وبعد سنوات قد تظهر لك الإجابة وبالتأكيد لن تنس السؤال أبدا. 

*

طوال حياتي، شُغلتُ بالأدب وعملت في وظيفتين وكلاهما ضروري بالنسبة لي وعلى الأرجح أن كل منهما كان يعزز الآخر: الكتابة والترجمة. وهنا الاختلافات بينهما: في الترجمة أنت تكتب، أجل، ولكنك لا تكتب وحسب، فأنت أيضا تحل أو تحاول حل مشكلة محددة ليست من صُنعك. لا يمكنك التهرب منها، كما هو الحال إذا كان النص من كتابتك الخاصة، وقد تطاردك لاحقا هذه المشكلة.

في الترجمة، أنت تقوم بتكوين عبارات وجمل تضفي السرور عليك بدرجة ما وفي أغلب الأوقات. تحمل متعة العمل مع الجَرس والإيقاع، الصورة والبلاغة وشكل الفقرة والنبرة واللحن -وهذا فارق مهم، أنك تتمتع بمتعة الكتابة داخل جزيرة النص المحدد وضمن محيطه المتميز. لا يحدق بك القلق المزعج، القلق من الابتكار، والالتزام بتأليف عمل ما بنفسك، عمل قد ينجح لكنه قد يفشل أيضا، والذي لا يمكن التنبؤ بنجاحه أو فشله على حد سواء. 

أنا أكتب، لكن ليس مؤلفي الخاص، الكلمات من اختياري لكن ضمن أُطر فكرة محددة. أبذل قصارى جهدي في جانب واحد فقط في الكتابة، لكنني لست مؤلف هذا المقطع تماما. أستطيع أن أعمل باجتهاد وبكل سعادة كما أريد بدون الشكوك التي تعتريني عندما يكون الكتاب من أدبي وتأليفي بالكامل، حتى لو كانت شكوك ضعيفة أو خافتة. أو ربما ليست شكوك بقدر ما هو التوتر الناجم عن فكرة أن هذا شيء قد لا يأتي إلى الوجود، أو إنه إذا تعثر في طريقه إلى الوجود فقد لا يستحق البقاء. حيث أن ليس ثمة شك في أن هذه الجملة الفرنسية التي أمامي يجب أن تكون مكتوبة باللغة الإنجليزية، وأنها يجب أن تُكتب بهذه الطريقة بالذات فأنا عندها مكرسة للقيام بذلك. 

في هذا النوع من الكتابة، ليس ثمة صفحة فارغة تثير في نفسك القلق، متى جلست للكتابة. لقد كتب شخص آخر بالفعل ما أنت على وشك كتابته، ويعطيك شخص آخر “إرشادات” محددة والتي هي نصه الأصلي. إنه أيضا نوع من الكتابة يمكنك القيام به عندما تهجرك مَلكة الكتابة. نقلت “كيت بريجز” عن “رولان بارت” في كتابها الرائع عن الترجمة “هذا الفن الصغير” قوله في محاضرته عن الرواية: “أود أن أنصح الكاتب الشاب الذي يواجه صعوبة في الكتابة -إذا كان من اللطيف تقديم النصيحة- يجب أن يتوقف عن الكتابة لأدبه الخاص لفترة من الزمن، ويقوم بالترجمة، وعليه أن يترجم الأدب الجيد، وسيكتشف يوما ما أنه يكتب بسهولة لم تكن موجودة من قبل”. في الواقع، كان هذا موقفي بالضبط -ذهني معطل وتهجرني الكتابة- عندما بدأت ترجمة “موريس بلانشو” في المرة الأولى. 

*

وبالنسبة المترجمين المشغولين في أدبهم الخاص، فهذه متعة عظيمة أخرى. تماما مثلما يمكنك الولوج إلى دواخل شخص ما والتحدث بصوته، فأنت أيضا لم تعد مقيد بأن تكتب بأسلوبك الخاص وبوعيك الخاص، ولكن بإمكانك الكتابة بأسلوب “بروست”، على سبيل المثال، بأسلوبه الهَرمي النحوي المتقن، ثم بعد سنوات قليلة، تكتب بأسلوب “فلوبير” بجمله المقطوعة وولعه بالفواصل المنقوطة. أنت في الوقت نفسه تتلبسك لبعض الوقت مشاعر المؤلف الأصلي: تصوير “بروست” الحنون الجدة في “طريق سوان” أصبح تصويري الحنون عنها في جمله البروستية. ولحظة تعاطف “فلوبير” مع إيما المحتضرة أصبحت شعوري أنا الداخلي بالتعاطف ناحيتها ناقلة له إلى اللغة الإنجليزية، ومع هذا أشعر خِفية بمزيد من التعاطف مع تشارلز المتهكم عليه في أغلب الوقت، حيث لقى نهايته بهدوء تحت أشعة الشمس، على مقعد في الحديقة، أثناء ما استدعوه لتناول الطعام. 

إن ظاهرة الانزلاق إلى أسلوب كاتب آخر تمنحك حرية كبيرة ومتعة أكبر في تلاعبك باللغة. عندها أنت كمن يتكلم من بطنه ويتلون كحرباء. 

وبينما تمتثل لهذا الأسلوب الغريب، وتبذل من نثرك الخاص فيه، قد تتأثر به أو تخالفه حتما في ساعات إجازتك، أو ساعاتك بعيدا عنه. حدث ذلك بينما كنت أترجم بكل سرور جُمل “بروست” شديدة الطول، وتحمل من مهارته ما يرهق، شرعتُ بحركة مغايرة في كتابة أقصر القصص التي يمكنني تأليفها والتي تكونت أحيانا من سطر واحد.

اترك تعليقاً