أولجا توكارتشوك: كيف ينقذُ المُترجِمون العالمَ

أولجا توكارتشوك: كيف ينقذُ المُترجِمون العالمَ


كيف ينقذُ المُترجِمون العالمَ

مقال لأولجا توكارتشوك*

نشر في مجلة «الأدب الكوري الآن»، 29 يونيو 2019

ترجمه عن الإنجليزية: محمد نجيب

عن ترجمة جينيفر كروفت من البولندية

*  أولجا توكارتشوك (1962)، أديبة بولندية، حصلت على جائزة نوبل في الآداب لعام 2018، الجائزة التي أُعلنت في أكتوبر عام 2019.

الترجمة خاصة بـ Boring Books وترجمان

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

*

في الآونة الأخيرة أصبحت أقف كثيرًا جنبًا إلى جنب مع مترجم تزامنًا مع صدور كتبي في بلدان مختلفة. 

من الصعب التعبير عن مدى ارتياحي من قدرتي على مشاركة مسؤولية التأليف الأدبي مع شخص ما. كنت مسرورة للتخلي على الأقل عن شيء من مسؤولتي عن النص للأفضل أو الأسوأ. غمرتني السعادة لعدم اضطراري أن أواجه بمفردي ناقدًا حانقًا أو مراجع كتب شديد الحساسية أو صحفيًا لا يمتلك أي اهتمام أو ذائقة أدبية، أو مدير ندوة متعجرفًا ومغرورًا. أشعر بسعادة حقيقية لمعرفة أن الأسئلة لن توجه إليَّ وحدي، وأن هذا الكيان المصنوع من ورق مطبوع لا ينتمي كله إليَّ. أظن أن الكثير من الكتّاب يشاركوني إحساس الارتياح هذا. لكن الشيء الأكثر إدهاشًا حقاً كان حقيقة أنّ وجود المترجم فتح الآفاق أمامي نحو عوالم جديدة جريئة بالنسبة إليّ بفضل دخولي في مناظرات ومناقشات بروح متحررة تمامًا من أي ضغوط، واحتكاكي بقضايا وجدتها غير واضحة بشكل كامل وغير مألوفة وحتى غامضة إليَّ- مؤلفة الكتاب. فجأة تحرر النص مني أو ربما إنني من تحررت منه. اكتسب نصي نوعًا من الاستقلالية مثل مراهق متمرد قرر الهروب من البيت ليحضر مهرجانًا موسيقيًا في جاروسين (مدينة بولندية). فالمترجم يتسلم زمام القيادة من الكاتب بهدوء ليُخرج النص إلى العالم من منظور مختلف، وهكذا يصبح دعمًا وسندًا له. يا له من نعيم! يحرر المترجمون الأدباء من الوحدة العميقة المتأصِّلة في عملهم الذي من أجله يقضون ساعات أو أيامًا أو شهورًا أو حتى أعوامًا متجولين بمفردهم في أفلاك أفكارهم وحواراتهم الداخلية ورؤاهم. يأتي المترجمون إلينا من الخارج ويقولون: «لقد عشتُ ما عشتَه أيضًا. لقد مشيت حيث مشيت. والآن سنعَبر هذه الحدود معًا». 

وبالفعل يصبح المترجم حرفيًا مرشدًا يمسك بيديَّ ويقودني عبر حدود أمة ولغة وثقافة مختلفة.

 يبدأ الأدب عندما يضع فرد اسمه على نصٍ كَتبه، عندما يستخدم عملًا من تأليفه للتعبير من خلال الكلمات عن تجربته الفريدة الأعمق والأشد حدة وأحيانًا الأكثر إيلامًا، مخاطرًا بحقيقة أن نصه قد لا يُفهم أو حتى لا يُقرأ أو أنّه قد يُغضِب الناس أو يُقابل بالرفض. من هذا المنطلق فإنّ الأدبَ هو تلك اللحظة الخاصة التي تتلاقى فيها اللغة الأكثر فردية مع لغة الآخرين. الأدب هو الفضاء الذي يصبح فيه الخاص عامًا. 

من الحقائق المُتفق عليها على نطاق واسع أنّ إنخيدوانا، القسيسة السومرية للإله نانا، إلهة القمر عند السومريين، هي أول من خطّ اسمه على نص أدبي، وبالتالي تعتبر أول كاتبة في التاريخ. في حقبة مظلمة من الاضطرابات الاجتماعية والصراعات السياسية على السلطة كتبت إنخيدوانا «ترنيمة إلى نانا» في أجواء يسودها الشك واليأس. رثاء مؤثر بشكل استثنائي عن إنسانة تشعر بأن الرب قد نبذها. بفضل الترجمة التي استخدمت بطبيعة الحال لغةً معاصرةً، بات هذا النص مفهومًا تمامًا ومواكبًا للقارئ المعاصر. تنقل الترجمة تجارب عميقة وحميمية عبر الزمن. إنّ «ترنيمة إلى نانا» نصٌ عالمي من دون شك. إنه اعترافٌ مفعمٌ بالدراما والأسى عن اليأس والإحساس بالهجران والعزلة، كُتِب منذ خمسة آلاف سنة (!) مع هذا يمكن أن يعيش أحداثه أي قارئ الآن في عالمنا المختلف جذريًا رغم حقيقة أنّ كل اللغات الرسمية لتلك الحقبة الغابرة قد اندثرت تمامًا.

تتشكل اللغة الخاصة بكل فرد منا خلال مجرى حياته كلها نتيجة سلسلة من الأحداث المتتابعة التي أثرت فيه، بدءًا من اللغة الموروثة عن الأبوين حتى اللغة التي كبرت معه، كل ما قرأه وتعلمه بالإضافة إلى تجربته الإنسانية الخاصة به. هذه هي اللغة الشديدة الخصوصية التي نتحدث بها مع ذواتنا والتي نستخدمها أحيانًا للكتابة فبالطبع لا نمارس جميعًا عادة كتابة أفكارنا على الورق أو الاحتفاظ بمذكرة أو كتابة أي نوع أخر من النصوص. ومن هنا فكل منا يمتلك لغة شديدة الخصوصية، فريدة مثل بصمات الأصابع؛ يمكن استخدامها لتحديد هوية الفرد.

في اعتقادي، الثقافة عملية معقدة من إيجاد التوازن بين اللغة الخاصة تلك واللغات الجمعية. اللغات الجمعية طرق مطروقة للجميع بينما اللغات الفردية تقوم مقام الدروب السرية. تتفق اللغات الجمعية على أشكال تواصل تبناها الجميع ليكون المجتمع مفهومًا بقدر الإمكان لأوسع نطاق من أعضائه. وفوق كل هذا وُضعت تلك اللغات كي تنقل محتوى يسمح ببناء صورة مشابهة أو متطابقة عن الواقع لدى الجميع. في واقع مشترك تشير الكلمات إلى ظواهر وأشياء ملموسة سواء كانت موجودة حقًا أم مثالية. مع المضي قدمًا، ستعزز اللغة المشتركة وصورة الواقع بعضها البعض. المعضلة هنا تكمن في حقيقة أنه في قلب هذا الارتباط الشائك بين اللغة الجمعية وتصور الواقع يبدأ المرء تدريجيًا بالشعور أنه محاصر؛ فاللغة تغذي الواقع والواقع بدوره يغذي اللغة. المثال الأفضل لهذا هو الأنظمة الشمولية المنغلقة التي تروج فيها وسائل الإعلام الخاضعة لسيطرة السلطة واقعًا معروفًا ويمكن التنبؤ به ومصاغًا باستخدام مصطلحات وتعبيرات نموذجية. في مثل هذا السيناريو تستخدم اللغة الجمعية للحفاظ على رؤية سياسية محددة وتستعمل بوعي أحيانا أو بسخرية أحيانًا أخرى في الدعاية لتلك الأنظمة.  وسرعان ما يفقد التواصل معناه حتى يصبح مستحيلًا.

يصبح استدعاء كلمة أو فكرة من خارج النظام أو التفوه بحقيقة واضحة لكن ترفضها السلطة تصرفًا شجاعًا. وسط الموالين للنظام، تصبح اللغة الجمعية تدريجيًا شديدة الوضوح ويزداد استخدامها من دون تفكير. تُفرَّغ الكلمات من معناها وتتداخل السياقات بحيث يصعُب تذكرها. تلك النوعية من اللغة تتحول إلى لغة لا توصل شيئًا معينًا. مجرد طقس شعائري. شعار للصراخ. أفكار بلا محتوى تصلُح فقط للهتاف.

الأسوأ في كل هذا أنّ في خضم عملية تخليق مثل تلك اللغات الجمعية الموسومة سياسيًا تُسرَق الكلمات. بعض الكلمات المحايدة المنسية التي عفا عليها الزمن، تُستحضر فجأة من كومة المهملات كي تجد طريقها إلى اللافتات والمنصات السياسية. إحدى الأمثلة من بلدي اليوم هي كلمة «أمة». اتضح أن الكلمة بعد تجريدها من سياقها التاريخي وإزالة الغبار عنها قليلًا، تخدم بمثالية بناء نظام العالم الجديد. بات من الطبيعي جدًا حتى لمن يستخدمون لغة جمعية مختلفة أن يمتنعوا عن استخدام هذه الكلمة فقد أصبحت كلمة خطرة وحمالة أوجه بما أصبحت تحمله من دلالات جديدة.

بالطبع، على بعض اللغات الجمعية أن تتواجد كي نستطيع التواصل مع بعضنا البعض في واقع يجب أن نتفاوض على شروطه باستمرار. لا بد من مساحة لاتفاق عام وأرضية من قواسم مشتركة. وفي الأغلب الأعم تعطي العبارات شديدة البساطة وكذلك الأمثال القديمة إحساسًا بالنظام وتجعل العالم المشترك بيننا كلًا متكاملًا.

تدور الآن رحى معركة من أجل فرض لغة مشتركة موحّدة، ليس فقط في أروقة البرلمانات وعلى شاشات التلفاز بل أيضًا داخل حرم الجامعات.  هناك تَنزعُ الاتجاهات الفكرية التي تأتي في موجات إلى إحضار لغاتها المشتركة معها. غرس جذور مثل تك اللغة بهذه الطريقة قد يستغرق عدة سنوات. لكن بمجرد أن تُقبَل هذه اللغة، لن تُستخدم في رسم صورة معينة للعالم فقط بل في خلق مجتمعات انتقائية أيضًا، فيها سيُختار البعض أعضاء بينما يُطرد البقية. 

كل جيل يمتلك لغته الخاصة لوصف العالم. وربما في عصرنا هذا، تظهر لغة جديدة كل عشر سنوات تقريبًا. لكن في الوقت نفسه ربما تظل مثل هذه اللغة غير واعية بشكل فج باحتمال زوالها السريع ومحدوديتها؛ لأنها لا تعبر سوى عما يقع في نطاق حدودها الضيقة.              

ليس ثمة مصيبة أسوأ من أن يفقد إنسان لغته الشخصية ويستبدلها بأخرى جمعية. من المحتمل أن يصيب هذا المرض أي من السياسيين والمسئولين والأكاديميين ورجال الدين. والعلاج الوحيد الممكن لهذه المصيبة هو الأدب، حيث التفاعل مع اللغة الخاصة بالفنانين  يتيح للقارئ تقوية مناعته في مواجهة هذه الصورة النفعية للعالم. هذه حجة قوية لقراءة الأدب (ينطبق هذا على الكلاسيكيات أيضًا) لأن الأدب يُظهر كيف عملت اللغات الجمعية في يوم من الأيام بطريقة مختلفة، وبناءً على ذلك تتولد لدينا تصورات أخرى للعالم. وتحديدًا بسبب ذلك، القراءة مهمة- لنتمكن من التشبث بتلك التصورات وللتأكد من أنّ عالمنا هو واحد فقط من بين عديد العوالم الممكنة، وأننا لسنا محصورين – بكل تأكيد-داخل حدوده الضيقة إلى الأبد.

إنّ مسؤولية المترجم مساوية لمسؤولية الكاتب. فكلاهما يحمي إحدى أهم ظواهر الحضارة الإنسانية: إمكانية نقل التجارب الفردية الحميمية إلى الآخرين، وبالتالي جعلها تجربة جمعية، من خلال هذا الفعل المذهل ألا وهو الإبداع الثقافي. 

اترك تعليقاً