تيم باركس: لماذا تستوجب الترجمة التدقيق؟

تيم باركس: لماذا تستوجب الترجمة التدقيق؟


لماذا تستوجب الترجمة التدقيق؟ (18 أكتوبر 2018)

مقال لتيم باركس الروائي والمترجم البريطاني المقيم في إيطاليا

ترجمة: أحمد إسماعيل – أنس عبد الله – سارة إبراهيم – سلمى الديب – سهير رجب الشرقاوي – صفية محمود – عمر سلامة – محمد صبري الشيخ – محمد مصلح – محمد مهنى – محمد ناصر الشعراوي – مروة أحمد – مريم سليمان – منى آدم – نرمين أحمد عبد المحسن – نهى رسلان – ياسمين أكرم 

ترجم هذا المقال عن موقع نيويورك ريفيو أوف بوكس ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) – ربيع 2019.

الترجمة خاصة بموقع ترجمان وسيلاس الإسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

*

هل الترجمة تخصص معرفي أم قضية؟ أرسلت دار نشر أمريكية صغيرة إليَّ فهرسًا، مذكور في مقدمته أسماء مترجمي كل الكتب الأجنبية التي تصدرها داعية القارئ لشكر الأشخاص الذين جعلوا وجود نسخ إنجليزية من هذه الكتب ممكنة، والاحتفاء بهم.

أذهب إلى ندوة جامعية حول الترجمة، يتصدر برنامجها اقتباس لبول أوستر يقول فيه «المترجمون هم أبطال الأدب الذين لا يخرجون من عالم الظل. الأدوات التي غالبًا ما يطويها النسيان.. الذين مكنونا من إدراك أننا جميعًا نحيا في عالم واحد».

أذهب إلى مؤتمر للترجمة يتحدث فيه مقدم الفقرة الافتتاحية بارتياح منوهًا بانتهاء الفترة التي يعرض المتحدث فيها مثالاً على الترجمة وينتقده ويقترح ما يُفترض أنها نسخته الأفضل -ذلك الزمن الذي أسماه بـ «زمن شرطة الترجمة»- وذلك لحسن الحظ. قرب نهاية المؤتمر عبر أحد رواد دراسات الترجمة الموقرين عن سروره لأن كل ما سمعناه هنا يستهزئ من مسائل الأمانة والتدقيق، والنزعة القديمة لتغليب بعض الترجمات على الأخرى باعتبارها جيدة وسيئة.

كلما أظهر واحد من أعضاء شرطة الترجمة وجهه، ينال نصيبه من التوبيخ. أفتح جريدة «نيويورك تايمز» وأجد خطابًا غاضبًا من بعض الأسماء التي تحظى بالاحترام في أوساط الترجمة، يهاجمون فيه مراجعة «بينجامين موزر» السلبية لكتاب «كايت بريج» الأخير «هذا الفن البسيط» The little art عن الترجمة. اعترض موزر على ملاحظة بريج التي وردت في الكتاب والتي قالت فيها: «نحن بحاجة إلى الترجمة، العالم والناطقون باللغة الإنجليزية يحتاجون إلى الترجمة، بكل وضوح وبكل إلحاح العالم يحتاجها وكذلك نحن». لقد شعر أن هذا الادعاء بحاجة إلى توصيف، أي ترجمات ولماذا؟ كان أيضًا غير مرتاح لحماس بريج لهيلين لو بوتر، أول من ترجمت روايات «توماس مان»، التي تسببت لغتها الألمانية –التي اتفق الجميع على مواطن القصور فيها- في وجود عدد كبير من الأخطاء في النسخ الإنجليزية من الروايات. هؤلاء الذين كتبوا خطابهم إلى جريدة التايمز، يستنكرون «إصرار موزر الرجعي والساذج على الدقة». الترجمة مسألة معقدة، هم يتحرون الدقة، ولكن الدقة نفسها ليست قضية بسيطة كي يتم حصرها في هذا النطاق.

وفي تلك الأثناء، وجهني أحدهم إلى منتدى للمترجمين على الإنترنت يقترح عليه مترجم بريطاني يعيش في إسبانيا ويدعى تيم جوتيريدج، أن انتقاد الترجمة بسبب أخطاء واضحة بالكاد يعد جريمة -فالكفاءة اللغوية هي جوهر الترجمة، أليس كذلك؟- وانتُقد من الزملاء لشعورهم أن الانتقاد «لاأخلاقي»، إذ إن المترجمين في حاجة للدعم لا الانتقاد. وبقراءة المناقشة، يبدو وأنهم هم من يمارسون ضده دور «شرطة الترجمة» وليس العكس. وعمومًا، فإن هذه القضية ملموسة بشدة في مجتمع الترجمة هذه الأيام للحد الذي جعل محررو إصدار «بكلمات أخرى» In Other Words نصف السنوي التابع للمركز البريطاني للترجمة يخصصون مقالًا رئيسيًا عن أخلاقيات انتقاد الترجمة في إصدار يناير المُقبل. 

من المفترض أن يكون كل ذلك مشجعًا، فالأدب لم يكن قط من أولويات الترجمة في العالم الأنجلوسكسوني، بينما في دولة مثل إيطاليا، أكثر من نصف الأعمال الروائية المنشورة مترجمة، نجد أن حصة الأعمال المترجمة في سوق الولايات المتحدة أقل بكثير، إذ تصل إلى حوالي 3%. يتقاضى المترجمون أجورًا زهيدة، وغالبًا لا يُشاد بعملهم. كم هو مشجع إذن أن نرى تأييدًا متزايدًا للأدب المترجم ودفاعًا مستميتاً عن ممارسي هذا الفن. ونعود إلى 2010، حين كتبت تلك الكلمات: 

فالمترجم أو المترجمة أثناء قراءتهم لأي نص، يولون الفوارق الدقيقة والآثار الثقافية اهتمامًا جنونياً، واعين لكل الكتب التي تحتوي على مضمون ذي علاقة بما يقرأون، بهدف إعادة كتابة هذا المجال المُعقد إلى لغته (أو لغتها) الخاصة، معيدين صياغة النص وترتيبه حتى يكون نفس أو أقرب ما يمكن إلى استيعاب المترجم الخاص للنص الأصل. في ترجمة كل جملة، يجب أن ندمج بين احترامنا وولائنا ودهائنا الإبداعي، كمن ينقل برج إيبيزا المائل إلى وسط مدينة مانهاتن، وإقناع الجميع أن هذا هو مكانه الصحيح، هذا هو حجم مهمة الترجمة. 

على كل حال، اختتمتُ ذلك المقال بالإشارة إلى أن الأدب شديد الثراء بالفوارق الدقيقة، وأن الترجمة مهمة مضنية؛ لهذا «يلزمنا الحرص على الاستعانة بأفضل المترجمين».

لنرجع إلى الفهرس الذي احتفى بمترجمي دار النشر، صحيح أن المترجم يجعل وجود نسخةٍ إنجليزية من رواية أجنبية أمرًا ممكنًا، ولكن قانون حقوق النشر -مشكورًا- يمنع ظهور ترجمات أخرى لعملٍ ما و لفترة طويلة إذ ما ظهرت بعد ترجمته الأولى. فبمجرد أن يترجم (دون بارتلت) عملًا لـ(كناوسجور)، أو (آن جولدستين) لـ(فيرَّانتي)، أو (لورين ستاين) لـ(ميشيل ويلبك)، لن يحظى قُراء اللغة الإنجليزية بفرصةٍ لقراءة أي نسخة مترجمة أخرى من تلك الأعمال لعشرات السنين. فإذا ما دخل كتابٌ ما في ثقافتنا وفي ذاكرتنا الجمعية، فسيكون بفضل ترجمته الأولى، سواء كانت ترجمةً جيدة أو سيئة.

حتى عندما يتعلق الأمر بترجمات سقطت عنها حقوق النشر -بسبب وفاة مؤلفيها منذ سبعين عامًا أو أكثر-، يجب أن نضع في عين الاعتبار أن المجهود المبذول في الترجمة لن يسمح لنا سوى بفرصة واحدة لترجمتها. فبعد أن أخذ كلٌّ من (فيرار) و(شتراوس) و(جيرو) على عاتقهم مهمة ترجمة ونشر يوميات شاعر القرن التاسع عشر الإيطالي (جاكومو ليوباردو)، (الزيبالدوني)، التي يبلغ عدد صفحاتها ثلاثة آلاف صفحة، يبدو أنه من غير المحتمل ظهور نسخةٌ مكتملة أخرى خلال حياتنا. كل ترجمة هي فرصة يمكن استغلالها أو تفويتها، وبالتالي فإنها تشكل مسؤولية على كلٍّ من المترجم والناشر.

تخيل لو أنني أقرأ روايةً لمراجعتها، مترجمة من الإيطالية -وهي لغة أعرفها جيدًا، إذ عشت في إيطاليا لقرابة أربعين عامًا حتى الآن. تعجبني الحبكة الممتازة، والشخصيات، والوصف، وأنوي كتابة نقدٍ إيجابيٍ عن الكتاب.

ثم لاحظت شيئًا غريبًا. قرأت الآتي «عند تلك النقطة، كان واضحا أنها حين اعترفت كانت بالكاد قد فكرت في الأمر»، وهي الصياغة التي منحتني انطباعًا أن البطلة لم تعترف وأنها ليست الشخص الذي يُقبل على فعل أشياء مهمة دون تفكير. لذا حمّلت النسخة الأصلية على جهازي الشخصي من نوع “كندل” ووجدت أن الجملة الأصلية كالتالي: 

«A questo punto risultava chiaro che lei a confessare non ci pensava neanche.»

وهو ما يمكن ترجمته حرفيًا للإنجليزية: «عند تلك النقطة، أصبح واضحًا أنها فيما يخص الاعتراف، لم تفكر حتى في الأمر»، أو بلغة أكثر بلاغة: «عند تلك النقطة، كان واضًحا أنها لم تفكر حتى في الاعتراف».

إذن نحن الآن أمام خطأ واضحٌ للغاية؛ تبديلٌ للمعنى. هذا ليس فارقًا طفيفًا، كذلك لا يمكن تفسير الأمر بأن المترجم قد اتخذ قرارًا بترجمة هذا الجزء من النص تحديدًا ترجمة إبداعية مختلفة. إنه خطأ فحسب، وجميعنا نرتكب الأخطاء. قد يكون خطأ من المحرر بنفس قدر الخطأ من المترجم، لكن من يهتم على أي حال؟ الكتاب مازال ممتعًا ويمكن الاستمرار في قراءته.

الآن فقط بعد أن أصبحت منتبهًا لمشكلات الترجمة -والمفترض أنني دُعيت لتقديم مراجعة للرواية بسبب معرفتي باللغة الإيطالية- بدأت ألاحظ كل مواطن الخلل والعيوب اللغوية المزعجة. 

إحدى جمل النسخة الإنجليزية تقول: «آه، هو فهمني تمامًا، قلق أن تتحول تلك التجربة فورًا لذكرى». 

إن الشطر الثاني من الجملة لا يبدو صحيحًا بالنسبة لي، فحينما عدت للنص الإيطالي وجدت الجملة كالآتي: «la mia ansia che l’esperienza diventasse subito memoria»، ومعناها «متحمس لأن تتحول تلك التجربة فوراً لذكرى». وبسبب مرونة المعنى في الكلمة الإيطالية «ansia» (التي لا تعطي معنى «القلق» دائمًا)، فقد فات المترجم ما تحمله صيغة الشرط «diventasse»، وبالتالي غيّر المعنى. نحن لسنا قلقين بشأن تحول تلك التجربة إلى ذكرى لكن في الحقيقة نحن نريدها أن تتحول لذكرى بأسرع وقت ممكن. مرة أخرى لا يحتمل الأمر أن يكون هذا تأويلًا مبدعًا؛ إنها قراءة خاطئة بوضوح. وهو ما يشبه الخطأ الذي سيحدث لاحقًا، في قراءة الكلمة الإيطالية «Banco» (مِقعد Bench) على أنها «Banca» (مصرف Bank) بمعنى المؤسسة المالية.

يظل هذا الأمر مستمرًا؛ وبالرغم من أنني ما زلت مستمتعًا بالرواية التي أراها ممتازة ومعظمها مترجم جيدًا؛ لم يتغير شيء، فثمة الكثير من تلك الأخطاء. لكن ماذا يجب على مراجع الكتب فعله؟ إن ذكرت خطأً أو اثنين، سوف يتهمني البعض بتصيد الأخطاء، والسعي لاستعراض قدراتي، وتجاهل الإنجاز اﻷكبر للمترجم. وأنا أريد بالفعل ترشيح هذه الرواية للقراء، وبخلاف تلك العيوب في الترجمة، يظل العمل رواية مميزة. لكن إذا كانت لغة المترجم الإيطالية أقوى، كانت لتصبح تجربة قراءة أفضل. هذه نقطة يجب وضعها في الاعتبار عند مراجعة ترجمات الأعمال الأدبية.

في النهاية، أعرف عدداً من المترجمين الذين لم يكونوا ليرتكبوا تلك الأخطاء ويتمتعون بكل من طلاقة التحدث وجزالة الأسلوب في اللغة الإنجليزية. بالتأكيد إن أغفلت التحدث عن جودة الترجمة في مراجعتي وركزت على الرواية فحسب، سيتهمني البعض بعدم احترام «المؤلف المشارك» في الرواية، وهو لقب متداول لوصف المترجمين مؤخرًا.

لنفترض الآن أنني تمكنت من تفادي تلك المشكلة عن طريق ملاحظة عابرة في نهاية المراجعة، «ترجمة مؤثرة، وإن لم تكن غير دقيقة». لكي أُفاجأ بعد ذلك بفترة وجيزة أن تلك الترجمة فازت بجائزة مرموقة. لقد جلب الاهتمام الحديث بالأدب المترجم بفيض من الجوائز الجديدة المخصصة للترجمة: جوائز للترجمات من لغة معينة أو من أي لغة، وجوائز للمترجمين الشباب، وجوائز للمترجمات، وجوائز للكتاب والترجمة معًا، وجوائز للترجمة فقط وهكذا. المنطق من وراء هذه الجوائز أن هناك بعض المترجمين أو الترجمات أفضل من غيرها، وأنهم ليسوا سواسية، فما الذي ينبغي أن أفكر فيه عندما تفوز هذه الترجمة بجائزة رغم كل عيوبها؟

هل فازت لأنه على الرغم من مشكلات الترجمة، تظل الرواية نفسها جيدة، في هذه الحالة هل يكون الفوز بالجائزة بفضل الكاتب لا المترجم؟ هل لم تلاحظ لجنة تحكيم الجائزة المشكلات التي وجدتها؟ هل يجيدون الإيطالية؟ هل كان لديهم وقت كاف لقراءة كل الكتب المُرشحة للجائزة بإمعان؟ والأهم هل من المفترض أن أقول شيء الآن؟ أو هل أكتب شيء؟ أو على الأقل أبعث ملاحظاتي لدار النشر أدعوهم إلى تصويب تلك الأخطاء في الطبعات القادمة؟ ألا تقتضي فكرة أن المترجم يمكن له أن يُمدح ويُحتفى به بسبب ترجمته، أنه قد يتعرض للنقد بسببها كذلك؟

«نحن جميعًا نغني من نفس صفحة النشيد»؛ أشار رائد دراسات الترجمة في نهاية المؤتمر أن هناك «حماسة» أو «حرارة» بين شباب المترجمين تحديدًا، وهو أمر رائع ومُشجع.

يمكن فهم هذه الرغبة في الشعور بالتوافق والتضامن، ولا شك أننا كلنا نتشارك في أعماقنا شغف بترجمة الأدب ونتمنى ازدهاره. ولذلك نستثمر الكثير من الوقت في تعلم لغتّنا وتحسين كتابتنا لكي تصبح ترجمتنا أفضل. وهذا هو المنطق من وراء كل دورات الترجمة: أن المتعلم قادر على التحسن. لكن إذا كان هناك من لا يشعر بالرضا تجاه ورقة النشيد، أو بفكرة وجود صفحات نشيد في العموم، فلنستمع إليه.

اترك تعليقاً