تقييم الترجمة: هواجس مترجم شاب

تقييم الترجمة: هواجس مترجم شاب


كان طبيعي إن محاولة التقييم توديني للتفكير في اتجاهات الترجمة، ومنها للحقيقة المرعبة أن كل نهج للترجمة ممكن ياخده مترجم هو نهج سليم، طالما كان نتيجة لتفكير مخلص ومطول للترجمة (مش أخده عشان قدراته ومهارته المحدودة ما يسمحوش له غير بكده)

تقييم الترجمة: هواجس مترجم شاب

مقال: محمد أ. جمال

بدأت كتابة النص التالي كمنشور للفيسبوك متوقعًا ألا يتجاوز الخمسمئة كلمة ولن يقرأه أكثر من خمسة من أصدقائي، بالتالي كانت الكتابة بالعامية لأنها لغة حياتي الشخصية، والهواجس التالية شخصية جدًا في طبيعتها رغم أنها تبدو ظاهريًا كنقد أدبي. الآن وقد تضخم النص إلى ألفي وخمسمئة كلمة وتشعبت الأفكار بأكثر من قدرة منشور فيسبوك على استيعابها، رأيت أنها قد تهم مجتمع أوسع من أصدقائي الخمسة، بالتالي كان قرار نشرها في منصة «ترجمان». لكن سامحوني على احتفاظي بعامية النص، العامية هي الأنسب هنا لأسباب عدة: أولها شخصية المحتوى كما ذكرت، والثاني أن الفصحى ستعطيه أهمية وجدية أكثر مما يتحمل، لو أردت نقاشًا أكاديميًا جادًا بخصوص تقييم الترجمة ومناهجها ستجد كتبًا ودراسات ومقالات أهم بكثير، وتتضمن كل ما هو مذكور هنا باستفاضة ودقة أكثر، أنا هنا «أفضفض» فقط. والسبب الثالث والأهم، تحويل النص من عامي إلى فصيح هو نوع آخر من الترجمة، وأنا لا أحتمل القيام بترجمة وأنا أتحدث عن الهلع الذي سببته لي الترجمة في المقام الأول. تحمل أيها القارئ عاميتي واستظرافي وصبيانيتي ولك مني خالص المحبة.


أكتر هاجس كان مسيطر على تفكيري الفترة اللي فاتت هي فكرة (تقييم الترجمة)، إيه هي الطريقة الأمثل لتقييم ترجمة كتاب، طبعًا كلامي عن الكتب والترجمة الأدبية حصرًا، ﻷن الترجمات التخصصية قواعدها أكتر صرامة ومختلفة كتير عن الترجمة الأدبية.

يشيع بين القراء العرب (ويمكن في العالم كله، هعرف منين؟) تقييم الترجمة بناءً على مقروئيتها، أي سلاسة قراءة العمل المترجم وفهمه واستيعابه. عمومًا أنا لا أرفض ده، مبدئيًا ما عادش عندي رغبة ولا قدرة على قراءة أي كتابة لا تتمتع بالحد الأدنى من السلاسة، أصلية أو مترجمة. ويمكن كنت محظوظ من بداية دخولي في مجال الترجمة بأن كتابتي إلى حد ما سلسة، وترجماتي بالتالي لاقت شيء من الاستحسان في البداية، حتى الآن ما شفتش حد بيلعن ترجمة محمد جمال (في انتظاره على أي حال).

بس بشوية تفكير وشَدّة دماغ، بنلاقي إن السلاسة مش شيء كافي أبدًا لتقييم الترجمة أو المترجم، إنما بتدي انطباع أن هذا الشخص على الأقل مش هيطَلَّع عين أبونا لما نقرأ، لكن إلى أي مدى هو متقن في ترجمته؟

أعتقد مفيش وسيلة لتقييم ترجمة تحمل شيء من الدقة لا تتضمن مقارنة الترجمة بالأصل، لكن مجرد عمل هذا بلا منهج (أو مناهج) شيء عبثي برضو. طيب خلينا نقول إن فيه مستويين للتقييم دلوقتي، نبدأ بأولهم اللي المفروض يكون واضح وبديهي وما نتكلمش عنه أساسًا: هل المترجم مؤهل أصلًا ولا لأ؟

أنا لا أدعو هنا لطريقة رسمية لتأهيل المترجم الأدبي، لأن ده شيء عبثي أولًا، ولأني برضو ابن للموجة العشوائية الأخيرة إللي حولت ناس كتير لمترجمين بين يوم وليلة، فتمام العشوائية حلوة وإلا يلا بينا نرمي محما ألف جمال بره هو وجيله، وأنا بصراحة مش عايز اترمي، أنا ما صدقت جيت!

بس يعني ما يخص التأهيل، مع انتشار سوق الترجمة، وعدم خبرة كتير من الناشرين والمحررين والمترجمين، بقى أي حد بيعرف شوية عربي وشوية من لغة تانية (إنجليزي غالبًا) بيعطوه بي دي إف وملف وورد ويرموه في المعركة، والعيال بتفرح بقى وتنطلق، لأن الترجمة سهلة ومش محتاجة شبحنة، or is it؟

خليني أحط معايير ابتكرتها حالًا هي إللي تحدد إذا كان المترجم مؤهل للشروع في ترجمة أدبية:

1- إنه يكون قادر على فهم واستيعاب واستبطان ما بين السطور للغة المصدر، وعلى معرفة، نوعًا ما، بثقافة النص وجمهوره ونطاقه الزمني، ولهلوبة في البحث حوالين ما يستغلق عليه من فهم النص في كل ما له علاقة بالكاتب والثقافة المحيطة.

2- إنه يكون كاتب متمكن نوعًا من التعبير باللغة الهدف، بلغة متلونة، متلونة هنا يعني أنه مش كاتب من بتوع (مما لا شك فيه…)، قادر إنه يِلَبِّس كلامه جلابية أو شورت أو كرافتة أو جيبة أو (إكسكيوز ماي فرينش) كلوت، كلما تَطَّلب السياق.

دي الحدود الدنيا للمترجم، المترجم عمومًا مش بس المترجم الشاطر، أقل من كده ما يصحِّش.

سهل جدًا تقييم المستوى الأول من الترجمة، ساعات بيكون واضح إنه مترجم بطيخة من مجرد قراءة كام صفحة من النص المترجم، وساعات بتحس إن فيه مشكلة فتروح تقارن بضعة جمل وصفحات بالنص الأصلي فتكتشف إنه مش بيترجم، بل هو بيبذل أقصى طاقته ومجهوده عشان ينقل أي حاجة من النص الأصلي، لكنه لا فاهم الأصل ولا عارف يعبَّر بلغة الهدف، والارتباك مالي الدنيا.

كان نفسي يبقى الكلام ده بديهي مش محتاج ذكر، لكن دور نشر كتير، كبيرة وصغيرة، يا إما لا تفقهه، أو لا تأبه بيه، وعندهم إسهال إصدارات ساعات كتير بيتضمن أعمال مهمة كلها ترجماتها سيئة إلى درجة محرجة.

طبعًا لا ألوم هنا على المترجم السيء.. أنا شخص ما بيعرفش يلعب كورة، لكن لو حد ناداني وقال لي اقف مدافع يا جيمي وهتاخد 500 جنيه في الماتش ومدحت شلبي هيقول اسمك هالله هالله هالله، هنزل ألعب عادي، مانا مش خسران حاجة، الحمار هو اللي جابني. (الميتافور واضح ولا أنزل بواحد تاني؟ بص، أنا مش بعرف أرقص، لكن لو…. you get the point).

طيب، ماذا عن المستوى التاني؟ لو معانا مترجم يجيد الحد الأدنى من المعايير الشقية اللي اخترعتها فوق، وعايزين نقيِّم جودة الترجمة من حيث مدى دقة وسلامة تعبيرها عن النص الأصلي، بعنصريه الأساسيين (المعنى والأسلوب). ومعانا نص مترجم ونص أصلي وطقم قواميس ومعاجم وكراسي طبية تساعد العمود الفقري المصاحب على تحمل القعدة الطويلة اللي جاية دي، نعمل إيه؟ ما عنديش فكرة!

حقك عليا والله، عارف إنك عمال تقرا كل ده مستني الكنز في آخر الرحلة، بس حقيقي ما عنديش فكرة صلبة أبدًا لتحديد إذا كانت الترجمة سليمة أو لأ، أو إلى أي مدى هي كويسة… كانت عندي آراء صلبة كالصخر قبل ما أبدأ ترجمة وأول ما بدأت، دلوقتي وأنا شغال على ترجمتي العاشرة أو الحداشر (مش فاكر كام بالظبط) محتار حيرة النعامة في قفص القرود. وطبعًا أنا محتار، مش أول كلمة فوق كانت (أكتر هاجس)؟ لو كنت عارف الإجابة ما كانش بقى هاجس. وعشان ما اضحكش عليك، برضو مش هيبقى فيه إجابة قاطعة هنا. خليك بس معايا واقرا للآخر، مش هتاخد إجابة، بس اِتقل تاخد حاجة نضيفة (شوية تساؤلات تجريدية تسحلك معاها مثلًا سحلة حلوة).

شوف، من غير نهج تفكيري معين تدخل بيه على الترجمة (أو على أي شيء في العالم تقريبًا) فأنت مهدد بتحويل شغلك القادم لبزرميط، أو مجموعة من الجمل كل واحدة كويسة لوحدها لكن مش راكبين على بعض. النهج الأكثر شيوعًا مؤخرًا بين المترجمين الكويسين نسبيًا هو (التقمص)، أي محاولة استحضار المؤلف وتخيل ماذا كان سيكتب لو كان بيكتب هذا النص باللغة الهدف، اللغة العربية في حالتنا. ده نهج فعَّال نوعًا وبيدي مساحة لإبداع ترجمي معقول، مع حفاظ نسبي على روح المؤلف وأسلوبه. «نوعًا» و«معقول» و«نسبي»، كان نفسي أستخدم كلمات رنانة زي كبير وبشدة وفشيخ، بس يعني التفكير المطول في هذا النهج بيبرز مكامن قصوره.

فين حدود استخدام هذا النهج؟ على مستوى الكلمة ولا الجملة ولا الفقرة؟ ولا على مستوى النص كله؟ ولا نشد الخط على استقامته ويتضمن الأفكار؟ طب هل يتضمن الجمهور المستهدف؟ يعني المترجم المتقمص لروح المؤلف يتخيل بالمرة ماذا كان المؤلف سيكتب لو كان جمهوره هم قراء العربية والشرق الأوسط… هل كان هيستبدل كلمة آلهة بجبابرة عشان الفسح السعودي وجرير تشتري؟ هل اللي بيكتب بجمل قصيرة متقطعة، وأشباه جمل -وجمل اعتراضية- كان هيراعي الفصحى ويرضخ لتركيب الجملة الفعلية والاسمية وقواعد بلاغة الفصحى؟ ولا كان هيتشقلب ويقطع الجملة الفصيحة خمسين مرة زي ما هو عامل في لغته الأصلية؟ وواضح كذلك إن النهج ده بيدي الأولوية للأسلوب على المعنى، طيب فين الحدود إللي يقف عندها المترجم ويقول لأ أنا ما اقدرش أغيَّر أكتر من كده؟

ماذا عن نهج الترجمة الحرفية؟ طبعًا دي حاجة مكروهة كراهة ريحة مؤخرة الشيطان حاليًا، بس ده نهج بياخده فعلًا عدد من المترجمين المحترفين المبدعين باختيار واعي، وفلسفتهم في ده نابعة من تفكير طويل في خناقة (خيانة المترجم) إللي بيعشقها النقاد والمنظرين (تخيل لو شباب جروبات القراءة عرفوا كلمة خيانة المترجم دي! هيطلعوا عين أبونا، محدش يقولها لهم). الترجمة الحرفية هنا بتحافظ على مفردات وتركيبة نص وشكل النص الأصلي بأرثوذوكسية توجع الضهر، بِيشِدّ اللغة الهدف على أقصى اتساعها عشان تستحمل عنوة النص الأصلي بمنتهى الأمانة للمؤلف (طبعًا مش لدرجة كسر قواعد اللغة النحوية الأساسية) وبتطالب القارئ إنه يبذل مجهود مع النص العجاف هذا عشان يقترب من فهم واستيعاب الثقافة الأصلية ومؤلفها، أي إنه بياخد القارئ بشكل ما للثقافة الأصلية، بدل ما تقرا عن صقيع كندا وانت حران في عمان، تعالى أنا هخليك تسقع معانا في كندا. أنا بكره هذا النهج تمامًا، فيه دار نشر مهمة معروف عنها إنها بتتخانق مع المترجم لو حط (و) مفيش قصادها and في النص المصدر، لما بسمع ده بتعصب فعلًا، لكني بتفهمه، مش بحتقره زي ما بحتقر دور النشر اللي بترمي النصوص في الشارع وكتبها ما تعديش من تقييم المستوى الأول، بل بختلف معاهم فكريًا وتحريريًا مع احترامي الكامل لنهجهم المبرر في الشغل.

في المقابل التام من نهج الترجمة الحرفية، بنلاقي نهج التحرر شبه الكامل من القيود، وتقديم النص كما يتراءى للمترجم: «شَمَّر كمامك يا صاحبي واعتبر النص نصك، المعنى بتاعك والأسلوب أسلوبك، أحمد زي الحاج أحمد وعلا زي مدام علا». المترجم بيدي هنا لنفسه أريحية تصرف كبيرة في النص لجعله أكثر مقروئية ومناسبة للثقافة واللغة الهدف، وتأويله زي ما يحب، بل وتطويره وتحسينه أيضًا. أي وكأن المترجم اتخذ من الخيانة نفسها نهجًا. ممكن يكون الانطباع الأول تجاه ده هو النفور، لكن فكر في المثال الأوضح في ترجمات دريني خشبة للإلياذة والأوديسة، حصان طروادة هو حصان طروادة والحرب قامت عشان خاطر باريس شقط هيلين، الأستاذ خشبة ما غيرش في الأحداث شيء، لكن فيما عدا ذلك جعل الملحمتين نصوص عربية أصلية بامتياز، وتعريبه لا يزال مرجع لأي حد بيشتغل في شيء له علاقة بالميثولوجيا اليونانية بالعربي. مثال آخر في المترجم الراحل، روكستار الترجمة الإسبانية، صالح علماني، وإن كان ده مثال غير أكيد أذكره فقط بناءً على الإشاعة المتداولة أنه كان بيسمح لأسلوبه يصيغ الترجمة زي ما يتراءى له حتى ده لو جه على حساب أسلوب الكاتب الأصلي، أنا لا أؤكد هذا ولا أنفيه بما أني لا أفقه حرف في الإسباني وغير قادر على المقارنة، لكن لا شك أن بترجمات علماني هتلاقي تشابه مش قليل بين ماركيز وساراماجو والليندي ويوسا، وأعتقد إن هذا التشابه لا يرجع بالكامل لتشابه عناصر الجغرافيا والتاريخ عند المذكورين. ارفض نهج التحرر زي ما تحب، لكن في النهاية هتروح تقرا مئة عام من العزلة وانقطاعات الموت بترجمة علماني حتى لو بتعرف إسباني وبرتغالي. بالمناسبة، كل اللي تعاملوا مع ترجمة الشعر بالنسبة لهم النهج التحرري في الترجمة هو الترجمة كلها في الأساس، مترجم الشعر بالضرورة شاعر، والنص المترجم هو شعر جديد مستقل عن أصله وينتمي لشاعر ثالث لا هو كاتبه الأصلي ولا مترجمه، إنما هو كيان مجرد أثيري استحضرته طقوس ترجمة الشعر.

خليني أقتبس من عبد السلام بنعبد العالي، المفكر المغربي المهم، وكتابه (انتعاشة اللغة: كتابات في الترجمة): «إن مصير أعظم الترجمات وأكثرها إتقانًا هو الزوال. بهذا المعنى، فالمترجم مبدع في لغة أخرى، أو على الأصح مبدع في اللغة. ومن أجل ذلك، فلا يكون عليه أن ينقل النص الأصلي وينسخه، ولا أن يهتم بتبليغ معناه الأصلي، إذ لا علاقة للترجمة بالتبليغ والإخبار. مهمة المترجم هي أن يسمح للنص بأن يُنقَل من ثقافة إلى أخرى، وأن يُمَكِّنه من أن يبقى ويدوم، ولا معنى للنقل إن لم يكن انتقالًا، ولا للبقاء إن لم يكن تحولًا وتجددًا، ولا للتجدد إن لم يكن نموًا وتكاثرًا.

إلا أننا لا ينبغي أن نفهم التحويل هنا في اتجاه واحد. الترجمة لا تُحَوِّل النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله تحول في الوقت ذاته اللغة المترجمة. ويمكن أن نتذكر هنا ما حدث للكتابة باللغة الفرنسية عندما تفتحت على الأدب الأمريكي وأخذت تترجمه، بل إن هذا ما نلاحظه اليوم في اللغة العربية حيث أصبحنا نشتم في نصوصها رائحة اللغات الفرنسية والإنجليزية والإسبانية. فليست الترجمة إذن هي ما يضمن حياة النص المترجم ونموه وتكاثره فحسب، وإنما هي ما يضمن أيضًا حياة اللغة والفكر ونموهما وتكاثرهما. وربما لهذا السبب فإن أزهى عصور الفكر غالبًا ما تقترن بازدهار حركة الترجمة. بهذا المعنى تكون الترجمة لا علامة على تبعية ونقل وتجمد وموت، وإنما على انفتاح وغليان وتلاقح وحياة».

يدافع الأكاديمي المغربي الجميل عن الحرية والإبداع في الترجمة في كتابه، وشايف إن حياة الكتاب ولغته لا تدوم إلا بانتقاله إلى لغة أخرى انتقال حر إبداعي يجدد في النص وينفخ فيه الروح، وشايف إن حركة الترجمة هي نفخ حياة في اللغتين والحياة الأدبية على الناحيتين.

الحقيقة إني ندمان على قراية كتاب انتعاشة اللغة لأنه فتح قدامي مساحة كبيرة ما كنتش أبدًا أجرؤ على النظر إليها، كنت بشتغل دايمًا بدرجة ما من التقمص تزيد أو تقل لكن نقطة المرجع ليها بتفضل الترجمة الحرفية، لا ألجأ للحرفية أبدًا لكنها تفضل في محيط بصري. دايمًا كنت على دراية بالنهج التحرري في الترجمة لكني كنت ببصله بتحفظ، عمري ما تخيلت نفسي بقرب للمنطقة دي، هذه الدرجة من الحرية لا أسمح لنفسي بيها إلا في كتابتي الأصلية. لكن الحقيقة رؤية عبد السلام بنعبد العالي في كتابه (إللي هي في الحقيقة تراكم على رؤية فلاسفة ومفكرين وأدباء ومترجمين عظام كتير على مر التاريخ مش رؤيته لوحده) خلتني أعيد التفكير في مبدأ الترجمة الأدبية ودور المترجم ونهجه وأدواته، وكنه اللغات ذات نفسها، إلى حد كبير. فجأة بقت الأدوات اللي في إيدي كمترجم أكتر ومساحة حركتي أوسع ومسؤوليتي أكبر، وهذا مخيف، مخيف.

ده يخلينا نرجع لمعايير تأهيل المترجم اللي ذكرتها سابقًا، لو المترجم شخص هيتعامل بتحرر مع النص المترجم (لو قبلنا ده فكريًا وأخلاقيًا أصلًا، وهي مسألة ستظل غير محسومة) فإحنا كده محتاجين بالإضافة للمعيارين المذكورين معيار تالت أهم بكتير: إن المترجم يكون على قدر من الفكر والثقافة والخيال قريب من المؤلف الأصلي.

أنا ترجمت لمؤلفين كتير، أهمهم حتى الآن (مع البون الشاسع بين التلاتة) جوزيف كامبل وكورت فونيجت ونيل جايمان، أعتقد أن لو المعيار التالت اتطبق عليا، فيبقى المفروض أتمنع من استخدام ميكروسوفت وورد (المعادل المعاصر للمنع من إمساك قلم) إلى الأبد.

إذا كنا محتارين في حدود نهج التقمص في الترجمة في التعامل مع النص، إيه هيا إذن حدود تصرف المترجم في النهج التحرري في التعامل مع النص؟ أنا قادر أستوعب الأهمية الفكرة المجردة لهذا الاتجاه، لكن على أرض الواقع العملي إلى أي مدى أسمح لنفسي كمترجم أو أتقبل كقارئ من مترجم التغيير و«التحسين والتطوير» في النص الجديد؟

بدأت الكلام بهاجس تقييم الترجمة من منظور القارئ، وانتهيت بدون قصد إلى الحديث عن نهج المترجم في الترجمة، مش متأكد بصراحة كان قصدي إيه لما بدأت الكلام عن هذه الاتجاهات الثلاثة (وهم مجرد أمثلة لاتجاهات متعددة في الترجمة الأدبية والترجمة عمومًا)، لكن في محاولة للرجوع لفكرة التقييم مرة أخرى خليني أقول إن اعتماد نهج بعينه، أو فهم النهج اللي يختاره المترجم لترجمة نص، شيء أساسي لتحديد الإطار اللي هنتحرك خلاله في عملية تقييم ومراجعة الترجمة في حالة مقارنتها بالنص الأصلي.

الهدف أصلًا إللي بيخليني أسعى لإيجاد وسيلة للتقييم، هي إني كنت مشغول في بداية شغلي كمترجم بالأدوات العملية للترجمة، ما شغلتش نفسي بالتفكير في عملية الترجمة المجردة غير بأني قررت غريزيًا بلا تفكير طويل إني أتخذ دور المتقمص والانشغال بتفاصيل تبدأ من ساعات العمل ونوع اللابتوب وتنتهي عند فهم اللغات والنحو وبناء حصيلة مفردات ومرادفات إلى آخره. بعد ما تجاوزت التفاصيل العملية، أتقنت حل بعضها ووجدت حلول معقولة للتعامل مع الأخرى وما عادتش تشغل أغلب وقتي، احتل محلها في التفكير هاجس المعنى الحقيقي للي بعمله كمترجم وإيه هو الدور إللي واجب عليا ألتزم بيه، وإزاي أكون مترجم أفضل، وهو ما وقعني في حفرة محاولة تقييم الترجمة، تقييم ترجمتي أنا أولًا وتقييم الترجمات عمومًا. كان طبيعي إن محاولة التقييم توديني للتفكير في اتجاهات الترجمة، ومنها للحقيقة المرعبة أن كل نهج للترجمة ممكن ياخده مترجم هو نهج سليم، طالما كان نتيجة لتفكير مخلص ومطول للترجمة (مش أخده عشان قدراته ومهارته المحدودة ما يسمحوش له غير بكده)، وكل نهج للترجمة برضو هو نهج خاطئ، لأنه بالضرورة مخالف لنهج معاكس يمكن تبريره بمنطق معاكس. التقييم إذن مستحيل إلا في حالة المستوى الأول (في عالم مثالي مش هنحتاج لتقييم المستوى الأول أصلًا، لأن حيبقى في common sense ومحدش هيسمح لبطاطساية بالترجمة)، وأنا إذن مش هرتاح في تربتي أبدًا طالما ما عنديش وسيلة نهائية لتحديد اللي أنا بعمله صح ولا لأ، ولا إيه الطريقة المثلى لجعله أفضل.

كحل وسط، بقيت أعتقد أن كل مترجم بيحترم شغله محتاج يمر برحلة التفكير في نهجه الخاص في الترجمة بينه وبين نفسه، واختيار ما هو أنسب ليه وما هو مقتنع بيه، والإقرار علنًا بنهجه في الترجمة وسبب اختياره ليه، على الأقل في الأعمال المهمة. والقارئ كذلك محتاج يستوعب إنه يقرأ نص مشترك لا يُنسب أبدًا لمؤلفه وحده، النص عمل مشترك بين المترجم والمؤلف مهما أجاد المترجم التخفي (ومهما شالوا اسمه من ع الغلاف، سامعني يا مدحت؟)، إحنا قرينا لماركيز وعلماني، ولدوستويفسكي والدروبي، ولهوميروس والدريني. النجاح يُشكر عليه الاتنين والفشل يلام عليه الاتنين… الترجمة اقتباس فني، زي سيناريست بيكيِّف رواية للسينما، مهما تقمص  المترجم المؤلف الأصلي، ولو حتى استحضر روحه بالسحر، تظل روح المترجم حاضرة وكذلك إبداعه بما هو حلو فيه وما هو سيء.

فكرت شوية في تخيل عالم يِقَيِّم فيه المترجمين شغل بعض على طريقة مراجعة الأقران peer review في الإصدارات العلمية، أو منصة شبه rotten tomatoes لنقد الأفلام من النقاد والجمهور تحلل الترجمات للأعمال المهمة، لكن في خيالي على طول شفت مشاهير المترجمين والقراء على الإنترنت وقد صارت أصواتهم هي الفيصل في اتجاهات الترجمة، وكبار دور النشر وهما بيدوا لترجماتهم أعلى التقييمات، وطردت الفكرة من خيالي فورًا… ولا تفتكر في طريقة ما لتحقيق شيء زي ده بأقل قدر من التحيز؟


المقال خاص بترجمان

يحتفظ الكاتب في حقه بالمساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه

اترك تعليقاً