الترجمة الأدبية للعامية المصرية.. ﻷجل محمد علي عبد المولى وملايين غيره

الترجمة الأدبية للعامية المصرية.. ﻷجل محمد علي عبد المولى وملايين غيره

الترجمة الأدبية للعامية المصرية.. ﻷجل محمد علي عبد المولى وملايين غيره

مقال لـ: محمود راضي

* نشرت هذه المقالة للمرة اﻷولى في عدد مارس 2019 من مجلة (ميريت الثقافية)


«يجب أن نسأل الأمهات في بيوتهن،‏ الأطفال في الشوارع،‏ وعامة الناس في السوق،‏ يجب أن نراقب أفواههم لنرى كيف يتحدثون ثم نترجم وفقًا لذلك».

 المصلح الديني مارتن لوثر

لو تصادف أنك من مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي اﻷشهر بخصوص الكتب Goodreads، واخترت صفحة كتاب مُكتوب أو مترجم إلى العامية المصرية، سيلفت نظرك بالتأكيد كم المراجعات الناقمة التي تشجب وتدين وتعترض على لجوء هذا الكتاب وكاتبه لاستخدام العامية المصرية بديلًا لغويًا مختارًا على نحو واع، ولا تقتصر هذه العاقبة على من يكتب بالعامية على نحو صرف، بل لو اختلط في الكتابة دماء الفصحى مع العامية بأي حال من اﻷحوال على نحو أقرب للغة الثالثة التي دعا إليها توفيق الحكيم قديمًا، فسوف تطول نيران الهجوم من يقترف هذا أيضًا.

هذا الرفض العارم والمستمر حتى لحظة كتابة هذه السطور للجوء إلى العامية المصرية بصفتها لغة للأدب والترجمة، وقبولها على مضض في الشعر والمسرح، لم يأت صنيعة اليوم، بل يمتد في الزمن لوقت بعيد جدًا، وأثار مناقشات لا حصر لها فيما يتعلق باختصاصات الفصحى والعامية، والحدود التي تقف عندها كل منهم ولا يجوز تخطيها من وجهة نظر المثقفين، بالرغم أنه بنظرة بسيطة ﻷرض الواقع، وبعيدًا عن التنظيرات والنقاشات واﻵراء المسبقة التي أفردت لها عشرات الكتب والمقالات ولا يتسع لها المجال هنا بالتأكيد، وعلى رأسها كتاب «مستويات العربية المعاصرة في مصر» للسعيد محمد بدوي الذي يعد اﻷفضل من بينهم، سنكتشف -للعديد من الاعتبارات- أن اﻷمر أكثر تركيبًا مما نتصور بكثير.

أولى هذه الاعتبارات أن اللغة -أية لغة- لا تتطور ولا تنشأ في الفراغ أو العدم، ولا تحيط نفسها بأسوار عازلة عما يحيط بها، بل تتأثر طيلة الوقت بمختلف العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والعربية ليست استثناء من هذا، فتستعير العديد من المفردات من لغات أخرى بحكم الاختلاط الاجتماعي والتبادل التجاري، أو يتغير تركيب الكلمات لصالح كلمات أبسط وأكثر قدرة على الوصول للمعنى المقصود (مثال شهير جدًا هو تحول «ما عليه شيء» إلى «معلش»)، أو تتزاوج مع كلمات من لغات أخرى (مثل كلمة «أجزاخانة»: حيث «أجزة» هو لفظ عربي اﻷصل «أجزاء» وصار متداولًا في التركية بعد حذف الهمزة بمعنى «دواء» أو«عقار»، و«خانة» كلمة فارسية تعني «البيت»، ليصير معنى الكلمة «بيت الدواء»)، أو حتى أن تظل الكلمة على حالها مع تغير تام في الدلالة التي حملتها في زمن سابق (مثل تغير المعنى وراء «ابن ناس» من شخص لا يُعرف له أب في العصر المملوكي إلى شخص من عائلة عريقة في العصر الحديث).

ثاني هذه الاعتبارات أن ذلك الجدار العازل الذي وضعناه بأنفسنا بين الفصحى والعامية في كل جدالاتنا هو ليس بهذه الفولاذية على أرض الواقع، فطيلة الوقت نكتشف أن للكثير من الكلمات الدارجة على اﻷلسن أصلًا فصيحًا في اﻷساس، لكن نظرًا لعوامل الزمن التي تضع بصمتها طوال الوقت وتفرض عليها حالة من التطور المستمر، وتغيرات الحياة الاجتماعية التي تتحول إلى الكثير من اليسر في التعامل اللغوي، يتبدل الحال بكثير من الكلمات التي كانت في اﻷمس القريب فصيحة وتصير عامية بحكم تداولها على اﻷلسن، أو حتى قد تنشأ لغة جديدة بالكلية مثلما حدث مع اللغة اﻹيطالية على يد الشاعر اﻹيطالي دانتي (صاحب ملحمة الكوميديا اﻹلهية) الذي وضع حجر أساس اللغة اﻹيطالية كما نعرفها اليوم من خلال اعتماده على واحدة من اللهجات المحلية العامية في إيطاليا، وهى لهجة فلورنسا، وصارت مع الوقت بديلًا لغويًا للغة اللاتينية التي كانت لها اليد الطولى لقرون في أوروبا، وليس في إيطاليا فقط، في مجالات الدين واﻷدب والسياسة.

ثالث الاعتبارات أن هناك تاريخًا كاملًا يقف وراء استخدام العامية المصرية لغة للكتابة اﻷدبية والصحافية وليس فقط لغة للحياة اليومية، ويمكن تتبع هذا التاريخ منذ العصر المملوكي، مما يجعلها خيار لغوي فاعل ومتحقق بالفعل على أرض الواقع على النحو لا يمكن تجاهله ولا يجدي معه المنع أو التقليل من شأنه حتى مع تسيد الفصحى للصورة وقلة الدراسات التي توثق المواد المكتوبة بالعامية، من بينها كتابي «اﻷدب العامي في مصر في العصر المملوكي» ﻷحمد صادق الجمال، و«العامية المصرية المكتوبة: مختارات من 1401 إلى 2009» لمديحة دوس وهمفري ديفيز، وكلاهما من إصدارات هيئة الكتاب.

رابع وآخر هذه الاعتبارات هو الثراء اللغوي الكبير الذي تتمتع به العامية المصرية، وتتطور على نحو أسرع بكثير من الفصحى، نظرًا لتعدد روافدها، واحتكاكها المباشر بالبشر من كل المشارب وكل اﻷزمنة، فعامية أوائل القرن العشرين لا تشبه عامية اﻵن، وعامية الطالب الجامعي لا تماثل عامية الصنايعي أو المزارع، وعامية القاهرة لا تماثل عامية الصعيد أو عامية الوجه القبلي، لتجد نفسك أمام أكثر من عامية، حتى أن السعيد محمد بدوي في كتابه «مستويات العربية المعاصرة في مصر» يقسم العامية المصرية إلى ثلاثة أنواع: عامية المثقفين، وعامية المتنورين، وعامية اﻷميين.

وإذا بحثت عن كتب ومعاجم تحاول التوثيق أو محاولة اللحاق بهذا الكم اللانهائي من اﻷلفاظ العامية التي تفرز بلا توقف، ستفاجأ أمامك بعشرات العناوين، وهذه عينة منها: (معجم تيمور الكبير، معجم فرج للعامية المصرية والتعبيرات الشعبية للصناع والحرفيين المصريين، معجم الدخيل في العامية المصرية، الكنايات العامية، اﻷلفاظ العامية المصرية، ألفاظ عامية فصيحة… الخ).

إذن، لم رفض العامية؟

بالطبع لا يمكن بأي حال من اﻷحوال حصر جميع اﻷسباب، لكن هناك سببان رئيسيان كامنان وراء هذا الرفض يمكن إلقاء الضوء عليهما:

1- هالة التقديس الديني التي أحاطت باللغة العربية على مدار الزمان، لكونها اللغة التي أنزل بها القرآن، وأمر التقديس الذي أحاط بالعربية قد أثار بالفعل الكثير من الجدالات الفقهية في عصور خلت، مما يجعل حدة الرفض مضاعفة: فمن ناحية سينظر إليها على أنها تعدى على لغة مقدسة ومصطفاة، ومن ناحية أخرى بكونها تجريفًا للتراث العربي الذي يشكل الدين ركيزة رئيسية فيه.

2- النظرة المتعالية في المجتمع الثقافي إلى العامية المصرية على أنها لغة عامة الشعب، وأن مكانها فقط هو الحياة اليومية واﻷحاديث اليومية، وعليها ألا تتجاوز هذه الوظيفة من وجهة نظرهم، وهو ما يبرر ما قلناه في البداية عن الرفض أن تصير لغة للأدب والترجمة، مع قبولها كرهًا في الشعر والمسرح.

فيم تفيد الترجمة للعامية؟

«الغرض من الترجمة إلى اللغة العامية واضح: إن ييجي اليوم اللي فيه محمد علي عبد المولى والملايين اللي زيه يقدروا يقروا فيه كبار الكتاب من عندنا ومن عند غيرنا باللغة اللي رضعوها على صدر أمهاتهم واللي عاشوا بيها وفيها وماتوا وهم بينطقوا بيها»

مصطفى صفوان من مقدمة ترجمته لمسرحية «عطيل» للكاتب اﻹنجليزي ويليام شكسبير

يلخص مصطفى صفوان فيما قاله جزء كبير من أهمية الترجمة للعامية، وهى إتاحة النصوص اﻷدبية غير المتاحة من قبل أمام عدد أكبر وشريحة أعرض من القراء، باللغة التي يفهمونها ويتعايشون معها ويمارسون بها كافة مناحي حياتهم، وليس بلغة الملتقيات الثقافية واﻷدبية المنغلقة على نفسها، مما يكسر جزء كبير من احتكار المنتج الثقافي في يد النخبة المثقفة وحرمان الباقي منها، شيء أشبه بما فعله المصلح الديني مارتن لوثر منذ قرون طويلة حين ترجم الكتاب المقدس إلى اللغة اﻷلمانية بعد أن ظل لقرون يُقرأ فقط باللغة اللاتينية التي فرضتها السلطة الكنسية، ومنها ترجم لكافة اللغات، ومنها ترجمة الملك جيمس التي تعد الترجمة اﻷشهر للكتاب المقدس إلى اﻹنجليزية. 

هناك هدف آخر من هذا الاتجاه، وهو محاولة تضييق الهوة التي تتسع يومًا بعد يوم بين العامية والفصحى، ومحاولة تدارك المسافة الكبيرة بينهما في القدرة على إنتاج مفردات جديدة، وتوفر شيء من العناء على المترجمين الذين يحاولون طيلة الوقت البحث الحثيث عن مقابلات ومرادفات لغوية تتلائم أو تساوي مع ما يجدونه في اللغات اﻷجنبية خلال عملية النقل والترجمة، ويقول الكاتب حسين فوزي عن هذه المشكلة على سبيل المثال: «اللغة العربية شحيحة جدًا من ناحية ألفاظ المعاني المجردة في حين أنها في غاية الغنى في كل ما يتعلق بالماديات وأوصافها». 

تجارب فردية

حتى اﻵن، لم تصل تجارب الترجمة للعامية المصرية -التي سيلي استعراض بعضها في الفقرات القادمة- لمرحلة تشكيل تيار مواز في الترجمة، وما زالت مقتصرة حتى اﻵن على التجارب الفردية التي تحاول في كل مرة اكتشاف مدى قدرة العامية المصرية على الصمود كخيار لغوي أمام هذا الاختبار، كما أن أغلب من خاضوا هذه التجربة كانوا على علم بالعواقب التي تنتظرهم، وهو ما دفع عدد منهم في تجاربهم إلى الوقوف في موقف الدفاع عن النفس، وتمهيد ترجماتهم بذكر أسباب لجوئهم لهذا الخيار اللغوي غير المعتاد في الترجمة وكأنها دفاع مسبق في مواجهة هجوم منتظر ومتوقع أيضًا.

ترجمة ناريمان الشاملي لرسالة الغفران

«وربنا وحده اللي يعلم إن حنيني ليك لو كان زي حنين الناقة لابنها، أو العصفور لعشه، أو الحمامة لوليفها، أو الغزالة لابنها الصغير، كان حيتغير مع اﻷيام والسنين، ولكن رغبتي في إني أقابلك وأشوفك زي حنين العطشان للمية، والخايف للأمان، ورغبة اللي لدغته حية سامة للحياة، والغريق للنجاة، والقلقان للراحة، وزي رغبتك انت نفسك لحمد ربنا وشكره».

بمجرد صدور الترجمة التي قامت بها المترجمة ناريمان الشاملي لواحد من أهم كتب التراث العربي قاطبة من العربية الفصحي التراثية إلى العامية المصرية حتى انهال الهجوم عليها من كل حدب وصوب، ومن أناس رافضين حتى للفكرة ولم يكلفوا خاطرهم أصلًا بقراءة الكتاب، كما انهالت التقارير الصحافية التي شاركت في هذه الهوجة من الهجوم، رغم أنها بهذه الترجمة قد قدمت خدمة عظيمة للعديد من القراء الذين لم يكن باستطاعتهم في السابق قراءة الكتاب في نسخته الفصحى -وأنا منهم- بسبب صعوبته الشديدة وإغراق مفرداته في الكلاسية التي لن يعيها أغلب قراء العربية بحكم الاختلاف الكبير بين فصحى اليوم وفصحى اﻷمس البعيد.

فكرة ترجمة كتاب أو نص أدبي من لغة قديمة لنفس اللغة ولكن في نسختها المعاصرة ليست بجديدة، لكنها لم تثر كل هذا الاستهجان والرفض المجاني كما حدث لدينا، فسلسلة No Fear Shakespeare على سبيل المثال التي تصدر عن Sparknotes قامت بنقل عدد كبير من مسرحيات شكسبير في نسختها الكلاسية بالتوازي مع ترجمة للإنجليزية المعاصرة حتى يتسنى لجميع قراء اﻹنجليزية فهم مسرحيات أهم كاتب مسرحي عرفه التاريخ، كما توسعوا بفعل المثل مع نصوص أدبية أخرى تحمل مستويات متفاوتة من الصعوبة بسبب كلاسية لغتها، مثل القصيدة الملحمية (بيوولف)، و(حكايات كانتربري) لجيفري تشوسر، و(قصة مدينتين) لتشارلز ديكنز، كما ذكرت المترجمة نفسها في المقدمة أن عمل سرفانتس اﻷشهر (دون كيخوته) أعيد ترجمته أكثر من مرة بمفردات وأساليب معاصرة، كما حدث المثل مع (اﻹلياذة) و(اﻷوديسة).

هذه الترجمة لرسالة الغفران وفرت على الكثير من القراء مشقة مهولة جدًا في قراءة اﻵف الهوامش والتذييلات ومطالعة معاجم اللغة العربية وقراءة عشرات التحليلات والتفسيرات للوقوف على ما يقوله المعري وابن القارح في الرسائل التي يتبادلانها، ويصير الشغل الشاغل أمامك هو فعل القراءة مباشرة دون إجراءات إضافية، حيث تصلك صنعة الخيال السابقة لعصرها التي يحملها الكتاب دون وسيط، كما أن انتماء الكتاب أصلًا -ولو على مستوى الشكل- ﻷدب الرسائل جعلت اختيار العامية خيارًا منطقيًا جدًا بفضل الطبيعة الاسترسالية التي تتمتع بها الرسائل.

ترجمة: عبد الرحيم يوسف   لـ «حلم فِـ ليلة نُص الصيف، ويليام شكسبير»

«خلوا النار الهمدانة النعسانة

تبقى نور مضوي في كل البيت».

هذه ليست المرة اﻷولى التي يُترجم فيها عمل من أعمال شكسبير للعامية المصرية، فالفنان سيد رجب -بالاشتراك مع المخرجة السويدية إيفا بيرجن- قد سبق له إعداد نفس المسرحية محل الحديث للعامية المصرية في عام 2003، كما كان لمصطفى صفوان السبق من خلال ترجمته لمسرحية (عطيل)، ولكن بينما انشغل إعداد سيد رجب بتحويل هذه المشاهد الشكسبيرية قابلة للتمثيل على المسرح بلغة يفهمها المشاهد، عمل المترجم والشاعر عبد الرحيم يوسف على الحفاظ على جزء كبير من شعرية النص اﻷصلي.

 لكن نعود هنا مجددًا لنقطة أثرناها في البداية، وهى أن ترجمة المسرح للعامية ربما لا تُقابل بنفس الدرجة من الاستهجان والرفض، وربما يعود ذلك ﻷن المسرح في اﻷساس وسيط مختلف تمامًا عن اﻷدب، لأنه في النهاية يستهدف أن يتحول لعرض مرئي ومسموع أكثر منه مقروء ﻷنه يعتمد على اﻷداء وحركة الممثلين، حتى مع طباعة النص لاحقًا أو قبل تقديمه على خشبة المسرح.

كما أن هناك توفيق كبير في اختيار هذه المسرحية بالذات، ﻷنها تبتعد كثيرًا عن منطقة التراجيديات الشكسبيرية الشهيرة التي يفضلها أغلب قراء شكسبير، وتحاول التعاطي مع جمهور أكبر، مستخدمًا أكثر من وسيلة في نفس الوقت: كوميديا الموقف القائمة هنا على سوء التفاهم، التلاعب بالشكل الفني (مسرحية داخل مسرحية) مما يجعل القارئ أو المتفرج فاعلًا بنسبة أكبر في التجربة أكثر منه ملتقيًا فقط في مسرحيات أخرى، كما أن موضوعها الذي يسخر من التصورات الرومانسية عن الحب يجعل من المسرحية متماسة مع أبناء هذا العصر، ومن أية ثقافة.

ترجمة محمود حسنين لـ «لبن النمرة»

«أستاذ فيتنر قال مرة: إن 13 عضلة في الوش بتشترك عادة في الضحكة اللي بتكون بجد، لو ما اشتركتش العضلات كلها في الضحكة، ما تبقاش من القلب».

لمن لم يسمع من قبل عن هذه الرواية، فهى الرواية اﻷولى للكاتبة اﻷلمانية ستيفاني دي فلاسكو، وصدرت في عام 2013، ولاقت نجاحًا لافتًا، وتحولت إلى فيلم سينمائي، وترجمت لعدة لغات منها العربية في مطلع هذا العام، لكن خطيئة هذه الترجمة -من وجهة نظر القراء- أنها بالعامية المصرية.

هناك معلومة بسيطة لا يعرفها أغلب مهاجمي الترجمة العربية: هذه رواية كانت مكتوبة في اﻷصل بالعامية اﻷلمانية، وليس باﻷلمانية المعيارية، ﻷن الرواية في المقام اﻷول تحكي عن مجموعة من المراهقين القادمين من خلفيات ثقافية واجتماعية شديدة التباين بين ألمان ومهاجرين ﻷلمانيا، فكان لا بد من محاكاة المنظومة اللغوية لهذه المجموعة بكل ما يستلزم من واقعية وسوقية، ﻷن الرواية تقدم معايشة فائقة الحميمية ﻷدق تفاصيل حياتهم، ومن غير المعقول أن تأتي اللغة خلافًا لذلك.

وبالتالي، كان على الترجمة أن تحافظ على هذا الخيار اللغوي الذي اختارته الكاتبة لروايتها، أن يكافئ هذه العامية بعامية مماثلة أو قريبة منها، فلو كانت قد تُرجمت للعربية الفصحى، سيتحول لنص لا علاقة بما خطته الكاتبة، وفاقدًا لشطر كبير من حيويته اﻷصيلة ومعايشته الحميمة.

مكافأة كتابة أدبية عامية دارجة بعامية دارجة في لغة أخرى ليست اختراعًا ولا بدعة، بل تصير ضرورة في حالات مثل هذه، انظر مثلًا كيف تعامل المترجم طه محمود طه خلال ترجمته لرواية جيمس جويس (عوليس) مع المقاطع المكتوبة بالعامية اﻷيرلندية وبحثه عن مقابل لها في العامية المصرية لكي تعي الفكرة.  

ترجمة هكتور فهمي لـ «الأمير الصغير»

«في يوم، اتفرجت على الغروب تلاتة وأربعين مرة».

بالتأكيد لا تحتاج رواية (اﻷمير الصغير) إلى تعريف، فالشعبية الطاغية لها تتحدث عنها دون عناء: ترجمة ﻷكثر من 300 لغة ولهجة منها عدة ترجمات للعربية باﻹضافة إلى تحولها ﻷوبريت على يد الشاعر الراحل فؤاد حداد، مبيعات تقدر بأكثر من 2 مليون نسخة سنويًا، العديد من المتنزهات والملاهي والمدارس التي تستخدم تيمات من الرواية، كم هائل من الاقتباسات في مختلف الوسائط المسموعة والمرئية وحتى المقروءة، لذا كان من الطبيعي أن نقول «لم لا؟» لترجمة جديدة لهذه الرائعة الكلاسية للعامية المصرية.

المدهش أن الترجمة التي قدمها هكتور فهمي تتفوق كليًا على كافة الترجمات التي قدمت سابقًا لها بالفصحى، ربما ﻷنها أكثر ترجمة نجحت في التقاط روح البساطة الشديدة في لغة الرواية دون إخلال بالمضامين المركبة التي تحتويها هذه الرواية حتى مع مظهرها الطفولي الخارجي، وهو أمر يشكل تحديًا كبيرًا أمام أي مترجم يتصدى لعمل موجه للأطفال في المقام الأول، فما بالك برواية بأهمية وجمالية (اﻷمير الصغير)؟

كما أن هذه الترجمة تتفوق من ناحية الاختيارات اللغوية، حيث الانحياز دومًا كان للأبسط وليس اﻷوقع على اﻷذن أو اﻷكثر بلاغة كما حدث في ترجمات سابقة، حيث أتذكر إحدى الترجمات التي قرأتها سابقًا وكانت تختار كلمات مغرقة جدًا في فصاحتها على غرار «تدجين» في مشهد الثعلب الشهير على سبيل المثال.

ترجمة محمد صالح لـ «أوسكار والسيدة الوردية»

«شكراً يا ربّنا إنك عملت كل ده علشاني، حسيت إنك خدتني من إيدي و بتتمشى بي في قلب سر الوجود علشان أفهم معناه، متشكر».

كان لترجمة رواية الروائي والكاتب المسرحي الفرنسي إريك إيمانويل شميت «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» وتحولها إلى فيلم سينمائي من بطولة النجم الراحل عمر الشريف فضل كبير في التعريف بهذا الكاتب للعالم العربي، وبعد عامين من «مسيو إبراهيم»، صدرت ترجمة أخرى لعمل جديد لنفس الكاتب، لكن هذه المرة كانت ترجمة وسيطة من الروسية للعربية وليس من الفرنسية للعربية، وطبعًا بالعامية المصرية.

لا يمكن تصور منهج آخر لترجمة هكذا رواية غير ما توصل إليه محمد صالح: رواية تحكي عن طفل في العاشرة من عمره، مصاب بالسرطان، يكتب سلسلة من الرسائل إلى الله وهى محور الرواية بأكملها فيما عدا رسالة واحدة تكتبها السيدة الوردية. الرواية بأكملها محكية من وجهة نظر طفل صغير، وبعقل ناشئ يحاول فهم الكثير من المفاهيم المعقدة والمركبة بخصوص الكون، وفي نفس الوقت يصارع المرض اللعين.

وهو ما يجعل نجاح الرواية في مهمتها بعد ترجمتها للعامية مضاعفة: نجاح في إمساك العصا من المنتصف بين طرح عدد كبير من اﻷسئلة الشائكة والمعقدة في قالب لغوي فائق البساطة يتناسب طرديًا مع عمر بطل الرواية وكاتب الرسائل، ونجاح في الوصول لشرائح أعرض من الجماهير كانت اﻷسئلة التي تطرحها الرواية بالنسبة لهم مقموعة أو غير وارد التفكير فيها من اﻷساس.

اترك تعليقاً