نتحدث مع المترجم والكاتب مينا ناجي في هذا الحوار عن تجربته في ترجمة كتاب “عن بلاغة العاميَّة”من الإنجليزية -المكتوب في الأصل باللاتينية- لدانتي أليجييري الصادر حديثًا عن بيت الحكمة للثقافة. مينا ناجي كاتب ومترجم مصري. يعمل بشكل حُر بمجال الترجمة والصحافة الثقافيَّة. ترجم كتاب “ضد الابتزاز المزدوج” (2021)، وهو مقالات فكريّة-سياسيَّة للفيلسوف سلافوي جيجك عن أزمة اللاجئين والإرهاب، وحاز على جائزة الدولة التشجيعيَّة في الترجمة.
1- هل يمكن أن تقدم لنا نبذة عن الكتاب ومؤلفه؟
حسنًا. الكتاب مؤلفه دانتي أليجييري. دانتي “الكوميديا الإلهيَّة”، الذي يُعتبَر أب اللغة الإيطاليَّة الحديثة. العمل نفسه كتاب نظري صغير (كان ينوي دانتي استكماله لكنه لم يفعل) عن موضوع لا زال شائكًا وحيويًا حتى الآن، على الأقل في عالمنا العربي، وهو الكتابة الأدبيَّة -وبالتالي الكتابة عمومًا- بالعاميَّة، الأمر الذي لم يُطرح للنقاش قبل دانتي رغم وجود شِعر “عامي” سابق عليه.
يطرح دانتي في العمل فكرة ثوريَّة بالنسبة لعصره، وهي تفوق اللغات الطبيعيَّة الحيَّة المنطوقة على اللاتينيَّة في الكتابة، وذلك عن طريق جمعه عناصر من مجالات مختلفة مثل الفكر اللغوي، والتاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، وتفسير النصوص الدينيَّة، والنظريَّة السياسيَّة، جنبًا إلى جنب مع الممارسة الشعريَّة والملاحظة الاجتماعيَّة الواقعيَّة في تكامل ثقافي مُدهِش.
يمكننا أن نلخِّص ببساطة ما حاول دانتي فعله في هذا العمل بتقعيد “عاميَّة” جديدة، سيستخدمها فيما بعد في عمله الأشهر، الكوميديا الإلهيَّة، لتصبح بعدها اللغة الإيطاليَّة كما نعرفها الآن. أي أن “عن بلاغة العاميَّة” هو إرساء نظري لـ آجرُّوميَّة (قواعد نحويَّة) للشِعر العامي الإيطالي، مثلما فعل أرسطو مع الشعر اليوناني في كتابه “فن الشعر”، وهوراس مع الشعر اللاتيني في كتابه بالاسم نفسه. وذلك، كما يرى دانتي، لأن “العاميَّة” مصادرها آنية تاريخيًا ويستخدمها بشرٌ في حياتهم اليوميَّة وتواصلهم فيما بينهم، مما يُغذيها ويدفع الدماء في عروقها ويجعلها في حالة تطور وازدهار، على خلاف جمود اللغة الرسميَّة الكتابيَّة الثابتة.
2- لماذا اخترت هذا الكتاب لترجمته؟
أولاً، لأني أحب دانتي كشاعر، وهو يتكلم فيه عن الشعر: ما أفضل من شاعر بحجم دانتي يتحدث معك عن الشعر ويقول لك وجهة نظره فيه؟… لا بد أن أحب فكرة الكتاب قبل ترجمته، لأننا سنترافق في رحلة طويلة معًا، فلو كان الرفيق مملاً أو لا يوجد كيمياء بيننا، ستكون الرحلة تعذيبًا. ولذلك أنا لا أترجم إلا ما أختاره بنفسي، رغم الخسائر وضياع الفرص التي يسببها هذا العناد.
ثم أنني فوجئت أنه لم يُترجم للعربيَّة؛ كتاب بهذه الأهمية التاريخيَّة والأدبيَّة، ولم يُترجَم بعد للعربيَّة! يالا بينا! كما أنه مكتوب باللاتينيَّة وليس الإيطاليَّة، وبالتالي لن يوجد أفضلية ما لترجمة “مباشرة” في المستقبل.
ثالثًا، لأنه كتاب صغير الحجم. أنا لا أحب ترجمة الكتب الكبيرة وأنفر من الفكرة نفسها.
وأخيرًا، لأني أظن أنه يمكنني التعاطي مع الكتاب بشكل خاص. مثلاً في كتاب “ضد الابتزاز المزدوج”، جيجك هو فيلسوفي الحي المفضل وأعرف الكثير عن أفكاره وأسلوبه، وبالتالي عندي إضافة ما لترجمته. في هذا الكتاب، على الرغم أني لستُ متخصصًا في الأدب الإيطالي أو دانتي أليجييري، إلا أن كوني كاثوليكيًا يجعل أمورًا ما مشتركة أستطيع إدراكها في كتابته؛ إحالات معينة وعوالم معينة لدي ألفة ما بها بسبب الانتماء الديني/الرمزي المشترك.
3- ما التحديات التي واجهتها أثناء ترجمة الكتاب؟
– اللغة. كتب دانتي هذا العمل باللغة اللاتينيَّة لا الإيطاليَّة، رغم أنه يتحدث فيه عن الكتابة بالإيطاليَّة، طبعًا يمكنك إدراك المفارقة في ذلك. لكن أسلوبيًا، كان يبدو لي أن دانتي يفخِّم لغته عن قصد، وأنا أتفهَّم قصده هذا. فحين تتناول موضوعًا إشكاليًا، الكتابة بالعاميَّة هنا مثلاً، تكون من البداية في موقف ضعف، موقف الشك والاتهام، ولذلك عليك أن تستخدم اللغة كسُلطة، كسلاح بنفس منطق من يشك فيك ويتهمك: أنا أستطيع محاربتك بسلاحك، وكعبي أعلى من كعبك. وهذا يعوِّض الضعف المبدئي للموقف اللغوي.
على مستوى الترجمة، الأصل اللاتيني للنَص كان يجعلني في بعض المواضع أترجم التعابير اللاتينيَّة مباشرة لأفهم المقصود، أو حين أشك لسبب ما في دقة الترجمة الإنجليزيَّة. كما أن الكتابة باللاتينية تطلَّبت لغة موازيَّة. فكرتُ في الفصحى العالية ذات الملمح التراثي، وقرأت بالفعل كتابين تراثيين فكريين من أجل التقاط حساسية هذا المستوى اللغوي. قرأت كتاب “فصول منتزعة” للفارابي، و”حي بن يقظان” للأربعة مؤلفين الذين قاموا بكتابة هذه القصة الفلسفيَّة. وتأكد لي، خلال تلك العملية، أمر لغوي مهم للغاية. إن ما يطلق عليه مثقفي اليوم “لغة فصيحة” هو بالفعل مصنوع تاريخي جمَّد اللغة في شكل معين. اللغة العربية أكثر ثراءً ومرونة وإمتاعًا من تلك الصورة الأحادية المتحجرة.
على سبيل المثال، وسأعطي مثالاً واحدًا لضيق المساحة، وجدت أن كتَّابًا من الصف الأول في التراث العربي، على تنوعهم، يستخدمون “تم + الفعل” كثيرًا، لا “فُعِل”. الآن يُقال إن هذه الصيغة “ركيكة” وغير فصيحة! شخصيًا، حتى قبل من قبل أن أتأكد من هذا الأمر، أرى أن هناك مواضع يكون فيها الصيغة الأولى “تم + الفعل” أقوى من الصيغة الثانية، لإعطاء إحساس الإتمام أو التوكيد أو الاستغراق الزمني للفعل، أو لأن موسيقاها أجمل داخل الجملة. هناك ألفاظ كثيرة أيضًا تعتبر ركيكة أو غير فصيحة اليوم، كان يستخدمها ببساطة هؤلاء الكتَّاب الذين استخدموا الفصحى بشكل مدهش في تركيبه وإمتاعه.
– الإحالات. رغم معرفتي الكثير من الإحالات المسيحيَّة-الإنجيليَّة، إلا أن هناك إحالات جغرافيَّة وثقافيَّة وتاريخيَّة وإثنيَّة، إلخ.. ومسميات قديمة للأشياء، تتعلق بعالم القرون الوسطى الأوروبيّ، تطلَّبت الكثير من البحث.
– التعبيرات المحليَّة والإقليميَّة / الاقتباسات الشعريَّة. ترجمة الألفاظ والتعبيرات المحليَّة-الإقليميَّة داخل النَص كان تمثل تحديًا خاص بالنسبة لي. فهذه تعبيرات محليَّة تخص مدنًا إيطاليَّة تنتمي زمنيًا للقرون الوسطى: تخيل أحدًا يتكلم عن فرق اللهجات بين مدن الفيوم والمنصورة والأقصر منذ 700 عام، وأنت شخص غير مصري ولا عربي!
نفس الشيء بخصوص الاقتباسات الشعريَّة المجتزأة (تصل إلى نصف شطر أحيانًا كثيرة) فأنا لا أعرف العالم الشعري لتلك الاقتباسات، وهي أيضًا بنفس اللهجات المحليَّة المتنوعة التي لا أعرفها، وعليَّ أن أعيد إنتاج كل تلك الفروقات في اللغة العربيَّة مرة أخرى. استخدمت في ذلك اللهجة الفلاحي والصعيدي والبورسعيدي، إلخ… كان هذا تحديًا صعبًا وممتعًا، وأرجو أن أكون موفقًا فيه.
– المصطلحات التقنيَّة في الشِعر. هناك جزء من الكتاب هو تحليل تقني للأشكال الشعريَّة المختلفة. كانت المصطلحات النقديَّة التقنيَّة غير معروفة بالنسبة لي، وتطلب هذا بحثًا للفهم وإيجاد مقابل له بالعربيَّة.
4- ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟
حاليًا لا يوجد. فأنا لا أعتبر نفسي مترجمًا محترفًا للكتب. بالمناسبة، لاحظت تلك الإجابة -أي “لستُ مترجمًا محترفًا”- في العديد من حوارات الموقع، وهو أمر لافت للنظر.
إن المترجمين الذين تستضيفونهم، ربما بسبب اختياراتهم النوعيَّة، هم أشخاص مهتمين بشكل شخصي بالمواضيع التي يترجمونها. لكن لا يوجد “مترجمين محترفين” بشكل منظم وجماعي في كافة المجالات. مما يكشف أن الأمور -بعيدًا عن الكتابات الجماهيريَّة ذائعة الصيت- لا زالت تدار بالجهود والميول الشخصيَّة والصدف. لهذا حسناته وسيئاته في رأيي، لكنه في النهاية واقع الحال.
هذا المشروع، بالمناسبة، قد حدث نتيجة صدفة أيضًا، بسبب الصديق، والقائم على هذا الموقع، حسين الحاج. طُلب من حسين ترجمة فصلين من الكتاب في سياق احتفاليَّة ما، لكنه أعتذر وأرسله لي لضيق وقته. أحببت الفصلين الذين ترجمتهما وكانا مثل تحدي لغوي لي (راجع الإجابة السابقة). وبعد ذلك، فكرتُ في استكمال ترجمة الكتاب ككل وكتابة مقدمة نقديَّة له تتحدث عن الكتابة بالفصحى والعاميَّة في اللغة العربيَّة. وقد كان.
5- ما الذي جعلك تتجه لمهنة الترجمة؟
البحث عن مصادر رزق من خلال الكتابة، لو اعتبرنا الترجمة نوعًا من الكتابة. باستثناء كتاب جيجك الذي ترجمته منذ بضعة أعوام لأسباب فكريَّة وإنسانيَّة، أظن أنني لو لدي استقرار مادي، ما كنت لأتجه إلى الترجمة. كان هذا يثير ضيقي سابقًا، أي أن تفعل أشياءً لا تريدها لأسباب ماديَّة، لكني تعلمتُ مع الوقت أن ربما هناك أشياء ما كنت لتتعلمها لولا سلوكك هذا الطريق الإجباري. وأن هناك مصادفات جميلة وغير متوقعة قد تحدث تخفف عنك إحساس الإجبار أو الامتناع المؤقت عن فعل ما تريده.
6- ما التحديات التي يواجهها المترجمون إلى العربية؟
– ضُعف المقابل المادي للترجمة داخل مصر (وتلك مشكلة كبيرة في الحقيقة).
– محدوديَّة الاختيارات خارجها (مؤخرًا بالذات). وبـ “خارجها” أقصد منطقة الخليج تحديدًا، الأكثر طلبًا على الترجمات والأعلى قيمة في الدفع.
– الاضطرار إلى ترجمة ما تأتي به منح الناشرين لا الذوق الشخصي أو التخصص، إلا في حالات معينة واستثنائيَّة.
– عدم وضوح مواعيد، أو بطء، ردود دور النشر على المقترحات المقدَّمة؛ في أحيان كثيرة لا ترد دار النشر أصلاً، فلا تعرف هل تنتظر أم أنهم تجاهلوا مقترحك ببساطة.
7- هل يمكن أن تصف لنا طريقتك في الترجمة، مثلًا كم مسودة تعمل عليها؟ وما القواميس أو المراجع التي تعتمد عليها؟
أولاً، أنا لا أقرأ العمل مُسبقًا أبدًا. ربما يبدو هذا غريبًا، لكني أعتبره كمن يذهب للسينما وقد عرف الفيلم كله مُسبقًا أو شاهده في البيت. فقط أتأكد أني سأقع في حب الكتاب، وهناك إشارات كثيرة لذلك، مثل مؤلفه وموضوعه وسمعته. وإذا بدأت في ترجمة كتاب واكتشفت أنه خدعني، وهذا حدث مرَّة بالمناسبة، أتوقف فورًا عن الترجمة.
ثانيًا، أعمل مسودة أولى، مع مراجعة دوريَّة سريعة لما سبق، حتى انتهي منها. واستخدم 3 قواميس “أونلاين” بالتوازي وقاموس (عربي-عربي)، من أجل الوصول إلى المفردة/التعبير الأدق والأفضل.
ثالثًا، أعمل مسودة ثانية أركز فيها أن يكون النَص “عربيًا” لا “مترجمًا” قدر الإمكان، وذلك دون الإخلال بدقة الترجمة. وأظن أن تلك المرحلة الأصعب، أي الموازنة بين “توطين” الترجمة و”دقتها”، وهذه الموازنة تختلف من مترجم إلى آخر ومن مدرسة إلى أخرى.
رابعًا، وهي خطوة تتشابه مع عملية الكتابة الأدبيَّة، أترك نَص الترجمة فترة طويلة، ربما تمتد لشهور، لأنظر إليه بعين جديدة، واكتشف مواضع القصور والخطأ، وأحاول إصلاحها وتجويدها، فتخرج المسودة الثالثة والنهائيَّة. أقوم بذلك قبيل تسلم الترجمة إلى الناشر مُباشرة.