وصف صامويل بيكيت أسلوب كافكا الواضح والمحايد: “وكأنه يغمرك بالسَكينة “
مقال مارك هارمان
ترجمة: جهاد الجمل
نشر المقال في موقع lithub
قال كافكا في أحد خطاباته إلى ميلينا جيسينسكا -صاحبته والمترجمة الأولى لأعماله- أنّ التجانس العاطفيّ لرواية “المحاكمة” جليّ في “كل جملة وكل كلمة، بلّ -إن جاز لي القول- وكل قطعة موسيقية”. استطاع كافكا أن يستشعر وجود هذه “الموسيقى” في ترجمة جيسينسكا التشيكية على الرغم أنّ كافكا كان يفضّل الاستماع إلى صوت محبوبته: “كُنت أرغب في سماع صوتِك بدلاً من أنين الأضرحة القديمة الذي أعرفه عن ظهر قلب”.
ولم يكُن من الممكن أن يُدلي أحد بهذا الثناء الرفيع على ترجمة ميلينا سوى كاتب يُتقن لغات متعددة ويتحدث التشيكية إلى جانب لغته الألمانية الأم ويحظى بفهمٍ متقدم لمهمّة المترجم، بالإضافة إلى كتاباته التي تعبُر الحواجز اللغوية والثقافية.
ويدينُ كل من حاولوا ترجمة أعمال كافكا من منظور جديد بالكثير إلى أعمال ويلا وإدوين موير اللذان قدّموا ترجمات لفَت رُقيها الأنظار لأعمال كافكا إلى الإنجليزية التقليدية في أفضل فترات القرن العشرين. كان على السيّد والسيّدة موير بصفتِهما المترجمين الأوائل لأعمال كافكا تقديم أفكاره الجدلية إلى جمهور القرّاء الإنجليزي وتطويع بعض الخواص الأسلوبية لكافكا بصورة إبداعية.
وربما يحظى مترجمو أعمال هذا الكاتب الذي باتت أعماله فيما بعد كلاسيكية معاصرة ببعض من الحرية في التوسع في استخدام اللغة الإنجليزية، لكنّ تلك الحرية حتماً لا تكافىء محاولاتهم القليلة الناجحة لمحاكاة موسيقى كافكا الصارمة وصوته المنفرد والتراكم الإيقاعي للتفاصيل ذات التسلسل المنطقي. وكما ذكّرنا ميلان كونديرا في مقاله عن الترجمات الفرنسية لرواية “القلعة”: “كل مؤلف مُعرض لانتهاك قيم “الأسلوب الجيّد”، وتكمُن أصالة فنّه (وبالتبعية علّة وجوده) بعينها في هذا الانتهاك. وأرغب أن أضيف أننا أي المترجمون، والقرّاء أيضاً بالتأكيد، في حاجة إلى الاهتمام عن كثب بما أشار إليه كافكا في خطاباته إلى ميلينا تحت اسم “الفقرات الخفيّة”، لا المعنى السطحيّ للقصص فقط.
وعلى الرغم من أن كافكا قد تأثر بمجموعة منتقاة من الكتّاب الكلاسيكيين والمعاصرين مثل يوهان وولفجانج فون جوته وهاينريش فون كلايست وأدالبرت ستيفتر وتشارلز ديكنز وجوستاف فلوبير وفيودور دوستويفسكي وروبرت والسر، إلا أنّه صنع أسلوباً فريداً بفضل دقّة ووضوح الأسلوب النثَري الذي كان يشحذ به التقارير الرسمية التي كان يؤلفها أثناء عمله اليوميّ بالمحاماة.
تمكّن كافكا في رواياته من أن يكون لاذعاً وموضوعياً بينما يُبقي على الكثير من خصائص أسلوبه المألوفة لدى قرّاء يومياته وخطاباته في آن واحد، فعادة ما يتحلىّ صوته بالخجل ولا يملّ من استجواب نفسه متراجعاً عن ادعاءاته المتذبذبة. يتفاوت أسلوبه في هذه القصص بين فخامة النثر في الأسطر الأولى في رواية “المحاكمة” والنزعة الدرامية وتقريباً السينمائية، بالإضافة إلى الأسلوب البيروقراطي المُستخدم بين الحين والآخر في رواية “التحول” مروراً بالدقّة المأساوية والتعتيم المُرواغ في قصة “في مستعمرة العقاب” وانتهاءً بالتقليد المتحذلق الساخر والخطاب المُتكلف إلى حدّ ما في قصة “تقرير لأكاديمية”.
قاومتُ بينما أترجم القصص الواردة في مجموعة قصص مختارة الإغراء الذي يدفعني لإضفاء بصمة أكثر قوةّ وتعبيرية وحيوية على الترجمة الإنجليزية لنّص كافكا الألماني البسيط ومهدور الحقّ. كانت تلك البساطة سلاحاً متعمداً للقضاء على “الجمل الفضفاضة” التي كتبها في شبابه حينما كان على حد وصفه لا يزال “مولعاً بالشعارات الرنّانة” (ولم تنجُ أيّ منها تقريباً).
يُفاقم أسلوب كافكا الواضح والمحايد -الذي وصفه صامويل بيكيت الذي قد قرأ رواية القلعة بالألمانية قائلاً: “وكأنه يغمرك بالسَكينة “- النزعة الخارقة للطبيعة للأحداث المُصوّرة في قصصه بينما يُمكّن القرّاء من الانفصال عن الشخصية الرئيسية لاستشعار ملامح السخرية، وأجل، تتوارى السخرية داخل ثغرات جُمله.
وتظلّ جهود المترجم لإعادة صياغة التأثيرات المتباينة لهذه الأساليب محكومة على الأقل جزئياً بالفجوة الفاصلة بين اللغات، حتى أكثرهم ارتباطاً ببعضهم مثل الإنجليزية والألمانية. إليك على سبيل المثال، التركيب اللغوي: يميل كافكا -بل والأدب الألمانيّ التقليدي- إلى الجمل الطويلة التي حاولت محاكاتها على الرغم من أنها تتحدى الميول العصرية للغة الإنجليزية.
ويجابه المترجم تحدياً آخر بسبب ضبابية الخطّ الفاصل بين منظور الراويّ الذي عادة ما يكون خفياً ويمثل الشخصية الرئيسية، بل وتُحكى من منظوره العديد من القصص في هذه المجموعة. فكافكا يُمكنه أن ينتقل إقبالاً وإدباراً بين هذين المنظورين داخل الجملة عينِها، وغالباً ما يُمهد أسلوب الراوي المجرّد التهكميّ للتوسع في استخدام اللغة الدارجة المُعبرة عن أفكار وتأملات الشخصية الرئيسية.
هناك بعض التغييرات المباغتة من الماضي إلى الحاضر في الزمن المُستخدم في القصص التي رُويت على لسان ضمير المتكلم والتي كانت قوتها في النصّ الألماني تُضاهي الإنجليزي. كما حاولتُ أيضاً أن أتفكّر-جزئياً على الأقل- في اختيارات كافكا لعلامات الترقيم: فهو يستخدم الفواصل بقِلة في بعض القصص بينما يستخدمها بغزارة مع وفرةِ من الفواصل المنقوطة في قصص أخرى مثل “التحول”.
ومن التحديات الأخرى التي تواجه المترجمين هو كيفية تقديم بعض الكلمات غير الرسمية التي تُمثل “الجسيمات المنكّهة” التي تحمل أكثر من معنى مثل كلمة “wohl” والتي تتراوح معانيها بين: ربما أو على الأرجح أو بالفعل وكلمة “doch” والتي تتراوح معانيها بين: ومع ذلك أو لكن أو بالفعل أو في النتيجة. وبينما يبثّ الكتّاب الألمان المتهورون كلماتِ كهذه في كتاباتهم دون اكتراث، يوّزع كافكا تلك الكلمات بدقّة مميزة تُحتم على المترجم استخلاصها من السياق الذي يعتمد فهمه بالأكثر على تِلك الكلمات المقتضبة.
تتضمن القصص التي جرى ترتيبها حسب التسلسل الذي كُتبت ضمنه بعضاً من قصص كافكا ذائعة الصيت وبعضها الآخر من القصص التي لم تنَل حظاً من الشهرة. وينصبّ التركيز على القصص التي جرى كتاباته في الفترة الواقعة بين عام 1912 وهو العام الذي كتب فيه كافكا روايتيّ “التحول” (التي غالباً ما تُترجم إلى “المَسخ”) و”المحاكمة”، وعام 1924 والذي شهِد موتَ كافكا السابق لأوانه في عُمر الأربعين بسبب مرض السلّ. عادة ما تتبع ترجماتي الطبعات النقدية الألمانية التي قد أزالت البريق الأسلوبيّ الذي كان ماكس بورد صديق كافكا المقرّب ومحرر أعماله بعد وفاته والكاتب الأول لسيرته الذاتية قد أضافه.
ومن حسن حظّي أن تنسيق هذا الكتاب قد سمح لي بتحذير القرّاء من وجود صور أدبية مختلفة غير قابلة للترجمة في النصّ الأصلي مثل المعاني المزدوجة والأفكار الشفهية السائدة، بالإضافة إلى تقديم بعض المعلومات السياقية. وعلى الرغم أن الملاحظات تعكس اهتماميَ طويل الأمد بنهج كافكا الإبداعي في إدارة العلاقة المركبة بين حياته وفنّه، فأنا أسعى أيضاً إلى طرح مجموعة كبيرة من التأويلات التي أثارتها قصصه.
حرِصت على اكتشاف كل جديدِ قد فاتني عن كافكا خلال 4 عقود أمضيتُها في قراءة أعماله ودراسة سيرته والكتابة عنه خلال إنجاز هذا المشروع. وآمُل أن يواصل قراؤه اكتشاف المزيد بأنفسهم بعدما مُهد لهم الطريق من خلال تلك “الفقرات الخفيّة”.