جين إير بلغات العالم

جين إير بلغات العالم

جين إير بلغات العالم: 57 لغة تُظهِر التفسيرات الثقافية المختلفة لرواية شارلوت برونتي الكلاسيكية

مقال لماثيو رينولدز*

نُشِرَ في موقع ذا كونڤرزيشن the conversation

ترجمة: يارا محمود وأسماء رضوان وشيرين البنهاوي

تحرير: جهاد الشبيني

*ماثيو رينولدز: أستاذ اللغة الإنجليزية والنقد المقارن، وزميل تعليمي بكلية سانت آن في جامعة أُكسفورد.

جرت الترجمة ضمن أعمال مختبر سيلاس السابع للترجمة بالقاهرة 2021

الترجمة خاصة بترجمان وسيلاس القاهرة

تحتفظ المترجمات بحقهن في المساءلة اﻷخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهن دون إذنهن


المترجمون هم أبطال الأدب المجهولون، أو كي نكون منصفين: قليلو الشهرة؛ رغم ما يتمتعون به من حق في مناصفةً جائزة بوكر الدولية التي تعترف بالمؤلف والمترجم، اللذين يتقاسمان الجائزة المالية البالغ قدرها 50,000 جنيه إسترليني. علاوة على ذلك، يأتي اليوم العالمي للترجمة الموافق 30 سبتمبر، الذي يُعدُّ فرصة للاحتفال بصغار الناشرين المهتمين بالروايات والقصائد المُترجمة؛ وبالتقدم المُذهل في الترجمة عبر الإنترنت؛ وقبل كل شيء، بالمترجمين البشريين الذين أمست مهاراتهم الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى.

لكن دعونا نتذكر أيضًا أن الترجمة كانت دائمًا مُحرِّكًا للثقافة؛ فالكلاسيكيات الأدبية والروايات الحديثة الأكثر مبيعًا تصل، من خلال الترجمة، إلى عدد قُرَّاء أكبر من أولئك الذين يطالعون الكتب بلغتها الأصلية. إذا أخذنا رواية چين إير لمؤلفتها شارلوت برونتي مثالًا، نجد أنها قد تُرجِمَت إلى ما لا يقل عن 57 لغة بعدد مرات لا يقل عن 593 مرة. 

من شأن هذا أن يُغير طريقة تفكيرنا في چين إير، فبعد أن كان الكتاب ــــ المنشور في عام 1847، وتدور أحداثه في يوركشاير ــــ إنجليزيًّا تمامًا، أصبح نصًا عالميًّا متعدد اللغات؛ دائم التغير؛ يغرس جذوره باستمرار في ثقافات مختلفة. في إيران، توجد 29 ترجمة لچين إير منذ عام 1980. وعند تدريس اللغة الكورية بمدرسة في ڤيتنام، تكون هناك ترجمة كورية لچين إير ضمن المنهج الدراسي؛ باعتبارها نموذجًا من الأدب الكوري. 

من شأنه أيضًا أن يُغير طريقة دراسة الرواية؛ إذ ما كان لي أن آمل في فهم چين إير باعتبارها ظاهرة عالمية بمفردي، ويرجع الفضل في كل ما اكتشفته إلى مجموعة من 43 باحثًا متعاونًا في عدة بلدان مختلفة ــــ ضمن مشروع الترجمة الموشورية.

الترجمة إبداع

يظنُ الناس عادة أن الترجمة من المُفترض أن تُعيد إنتاج نصوصهم الأصلية، كما لو كانت آلة نسخ ضوئي. بيْدَ أن هذا بعيد كل البعد عن روح الترجمة، لأن كل لغة بطبيعة الحال مختلفة. والحقيقة أن عملية الترجمة أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام، لأنك لا تستطيع التعبير عن الشيء ذاته كما هو بالضبط في لغة أخرى. وعليه يستخدم المترجمون خيالهم ليعيدوا تأليف الكتاب، مستخدمين أدوات مختلفة لقُرَّاء ذوي توقعات مختلفة. الترجمة أشبه بنحت تمثال، أكثر منها التقاط صورة. 

يظهر هذا جليًّا في الطريقة التي تُعاد بها صياغة العنوان بأشكال مختلفة؛ ففي اليابانية، تُرجِمت الرواية في عام 1896 إلى ريسو كايجن (إمرأة مثالية – ترجمة فوتو ميزوتاني)؛ وفي البرتغالية، تُرجِمت في عام 1941 إلى آبايشو دي چين آير (عشق جين آير – ترجمة ميسيا)؛ أما في الإيطالية، فتُرجِمت في عام 1958 إلى لا بورتا كيوزا (الباب المغلق – مترجم غير معروف)؛ وقُدِّمت في التركية عام 2010 بعنوان يلار سونرا جيلان موتلولوك (السعادة بعد سنوات طويلة – ترجمة چيران تاشتان). 

عنواني المفضل من بين هذه العناوين المُتَحولة هو العنوان الصيني الذي استحدثه فانج لي، في عام 1954، ونقله من بعده كل المترجمين تقريبًا: رمزان من الرموز التي يمكنها إصدار صوتًا مشابهًا لطريقة نطق “چين إير” أن يعنيان أيضًا “حب بسيط”، وبهذا يكون العنوان “چي يان آي” قد جمع تشابه الصوت والمعنى معًا. 

حتى أن أصغر التفاصيل اللغوية، الضمائر مثلًا، يمكن أن تخضع لتحولات مبهرة. في الإنجليزية، توجد طريقة واحدة فقط نقول بها “أنت” بصيغة المفرد؛ في حين أن لغات شديدة الشبه بالإنجليزية كالفرنسية والألمانية والإيطالية تصوغها بطريقة مختلفة، ففي الفرنسية يوجد فرق بين “حضرتك” الرسمية (vous) و”أنت” الأكثر حميمية (tu). ومن ثَمَّ، يمكن لهذه اللغات أن تخلق لحظات شديدة الأهمية في الرواية، لا يمكن ببساطة للغة الإنجليزية أن تصنعها. هل ينادي چين وروشستر أحدهما اﻵخر بـ”tu” على الإطلاق؟ 

لا يبدو أنهما يفعلان ذلك في الفرنسية (أو على الأقل لم نر ذلك في الترجمات التي درسناها). بعكس الألمانية؛ بحثت ماري فرانك، إحدى المشاركات في البحث، في ترجمة من عام 1887 لماري فون بورش وأخرى من عام 1979 لهيلموت كوسودو، ووجدت أن روشستر قد لجأ في كلتا الترجمتين إلى استخدام “أنت” الأكثر حميمية (du) عندما كان يتقدم للزواج وأن چين لم تخاطبه بنفس الصيغة الحميمية. لم تستخدم چين تصريف الفعل مع “du” إلَّا قرب انتهاء الكتاب، لتهتف العبارة الموازية لـ”انتظرني!”، في لحظة رائعة من توارد الخواطر، عندما تسمع صوت روشستر يناديها عبر البراري وتستجيب لعاطفته أخيرًا.

هل يمكن أن نعتبر هذا فرقًا أضافه المترجمون، أم أنه شيء لطالما كان مُتضمنًا في النص الإنجليزي حتى وإن لم يكن واضحًا لنا؟ ما الذي كانت شارلوت برونتي ستفعله لو استخدمت الألمانية، أو الفرنسية (اللغة التي كتبت بها مقالات وخطابات) بمصادرها المتنوعة؟ الإجابة على هذه الأسئلة غالبًا مستحيلة. وإذا انتقلتَ، مثلًا، إلى الكورية، التي تضم ضمائر عديدة لمختلف الطبقات الرسمية التي تعلمتها من سُوّون بارك؛ تصبح الصورة أكثر تعقيدًا.

العشق النسوي

چين ”عاشقة“ بكافة أنواع الطرق؛ حينما كانت طفلة قاومت تنمر أبناء خالها ودافعت عن حقوقها في المدرسة، وعندما نضجت شعرت بحب متقد لروشستر، ذلك أن كلمة عشق الواردة في الرواية يمكن أن تحمل معاني مثل الغضب، العناد، المعاناة، المروءة، الرغبة، الحب.

كانت شارلوت برونتي تُثير جدالًا نسويًّا باستخدامها الكلمة بكل معانيها؛ كانت تقول إن الحب عند المرأة في بدايات العصر الڤيكتوري لم يكن بالضرورة شيئًا خاملًا، وأن القضية لم تكن تكمُن في أن يُعجب بها أحدهم. عوضًا عن ذلك؛ كان الحب مرتبطًا بالغضب والعدالة، وربما وسيلة لإثبات الذات.

ساهمت طاقة النسوية بالرواية في شهرتها ورواجها حول العالم؛ في أوروبا كلها من منتصف القرن التاسع عشر إلى أواخره، وفي شرق آسيا كلها من منتصف القرن العشرين إلى أواخره، شُغِف بها بعض المترجمين والقرَّاء وصُدِمَ آخرون. وبطبيعة الحال، لأن الثقافات واللغات مختلفة، كان لا بد لحيوية الرواية أن توجَّه بطرق مختلفة.

لا تمتلك أغلب اللغات كلمة واحدة من شأنها أن تُعبِّر عن المعاني المتنوعة التي عبَّرت عنها كلمة برونتي: “عشق”، وعليه تُجزِّئ اللغات تلك المعاني بطرق مختلفة. من اللافت للانتباه أن هذا يُفرِّقُ عادةً بين چين الصغيرة (الشغوفة) الغاضبة وچين الناضجة، ويصل بينها وبين بيرثا مايسون؛ زوجة روشستر الأولى المستوحشة المحبوسة في علية قصره.

ومثلما اكتشف كيفان تَهْمَسِبْيان؛ تُترجم كلمة “عشق”، في الفارسية، إلى مجموعة واسعة من الكلمات التي تفصل بين عناصر الحب والرغبة والغضب والإثارة. وعلى الرغم من أن الأمر ربما يبدو وكأنه خسارة (غياب المعاني المتعددة الموجودة في كلمة عشق!)، فإنه يُعدُّ في الوقت نفسه نوعًا من المكسب (أُنظر إلى كل هذه المقاربات المتنوعة!).

تُعدُّ جملة ”أيها القارئ، لقد تزوجته“ أشهر وأكثر جملة استفزازية في الرواية؛ وهو أمرٌ تساعدنا الترجمات على رؤيته. مثلما يخبرني الباحث چيرنيّ هابچان، فإن ترجمة هذه الجملة في السلوڤينية موازية لـ”أيها القارئ، لقد تزوجنا”. من ناحية أخرى، نجد أن جميع الترجمات الفارسية التي رأيناها حتى الآن تسحق إثبات چين لذاتها، وتحمل معنى يكافئ “أيها القارئ، لقد تزوجني”. حتى اليوم، تتمتع چين إير بطاقة تقدمية، وستتولد منها ترجمات أكثر من أي وقت مضى.

اترك تعليقاً