نتحدث مع المترجمة سها السباعي في هذا الحوار عن تجربتها في ترجمة رواية «صمت الحملان» من تأليف توماس هاريس الصادرة حديثًا عن دار الكرمة. سها السباعي مترجمة مصرية، حصلت على درجة الليسانس في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة. من ترجماتها: «رحلة هاملت العربية: أمير شكسبير وشبح عبد الناصر» تأليف مارجريت ليتفين، و«قراءات في أعمال نوال السعداوي» تحرير إرنست إيمنيونو ومورين إيك، وكلاهما عن المركز القومي للترجمة. صدرت لها لدى دار الكرمة ترجمات: رواية «حرائق صغيرة في كل مكان» لسيليست إنج، و«الاعتذار» لإيف إنسلر، ورواية «اترك العالم خلفك» لرمان عَلم، و«أبناء بالغون لوالدين غير ناضجين عاطفيًّا: التعافي من والدين متباعدين أو رافضين أو منغلقين على ذاتيهما» للدكتورة ليندزي س. جيبسون، و«عامٌ كي تغير رأيك» للدكتورة لوسي مادوكس.
- هل يمكنك أن تقدمي لنا نبذة عن الكتاب ومؤلفه؟
تنتمي رواية صمت الحملان إلى أدب الرعب النفسي، ويمكن أن نصفها بالكلاسيكية. صدرت في ثمانينيات القرن الماضي لتحكي قصة تبدو بوليسية للوهلة الأولى، لكنها في الأساس تتعمق في الدوافع السيكولوجية التي تجعل قاتلًا متسلسلًا (بافالو بيل) يستهدف فئة معينة من النساء ليقتلهن بطريقة معينة، والدوافع التي تجعل متدربة شابة (كلاريس ستارلنج) مستميتة للنجاح والتميز في بيئة غير مرحبة بالنساء، والدوافع التي تجعل شخصًا واسع المعرفة، يتمتع بثقافة راقية وذوق رفيع (هانيبال لكتر) يقتل بطريقة بشعة، ويقدم في الوقت نفسه يد العون للمتدربة الشابة، المفتون بتصميمها وقدراتها، بطريقة تخدم مصالحه وتحقق أهدافها بالطريق الصعب، طريق التعلم والتفكير والاكتشاف، والدوافع التي تجعل مسؤولًا في أكاديمية التحقيق الفيدرالي (جاك كروفورد) يتجاوز فاجعة في حياته الشخصية بالتزام المحب المشفق، ويناور أثناء ذلك ببرود في ميادين السياسة والعلم والعلاقات الإنسانية، للقيام بمهام عمله على أكمل وجه في أوقات عصيبة. تستكشف الرواية موضوعات القوة والتلاعب والخطوط الضبابية بين الخير والشر، وتشير بكثافة إلى تأثير صدمات الطفولة وهرمية السلطة والفوارق الطبقية، ولا تهدف إلى الصدمة والرعب فحسب، بل تتوغل في نفسيات قرائها، فنحن مهووسون بما يدفع بعضنا إلى القيام بأشد الأفعال ظلامًا، لا نخشى الشياطين والخوارق بقدر خشيتنا من الآخرين، ومما نحن قادرون على فعله بالآخرين.
أما المؤلف فهو الأمريكي توماس هاريسون، الذي استفاد من عمله السابق كمراسل صحفي وتجاربه في تغطية الجرائم، فبحث بدقة في الملفات النفسية والسلوك الإجرامي، فأظهر نبوغه في أدب الرعب النفسي وقدرته على مزج الرعب بالعمق الفكري. هاريس مؤلف من الطراز الذي لا يميل للأضواء، واختار أن يُحكم عليه من خلال عمله فقط، لن تجد جملة في كتابته لا لزوم لها. يشهد له المؤلف الأغزر إنتاجًا والأقوى تأثيرًا في أدب الرعب ستيفين كينج بتغريدته في 2019 بعد أن قرأ آخر رواياته: «إنه بارع كما كان دائمًا، قراءة نثره أشبه بتمرير يدك ببطء على حرير بارد».
- لماذا اخترتِ هذا الكتاب لترجمته؟
الكتاب هو الذي اختارني. عرضت دار الكرمة عليّ ترجمة الرواية ووافقت بدون تفكير. شاهدت الفيلم المأخوذ عن الرواية في التسعينيات وفُتنت بأداء الممثلين لشخصياتها، خاصة شخصية لكتر المعقدة، التي تتجاوز الرعب المجرد، وشخصية ستارلنج المكافحة التي تتغلب على العقبات، وشخصية كروفورد المحيرة التي تلعب بكل البطاقات. أسعدني أن الفرصة قد جاءتني لنقل الرواية إلى العربية على الصفحات بمساحتها التي تتيح لها تغطية أكبر بكثير من تلك التي يتيحها وقتها المحدود على الشاشة، بالإضافة إلى التفاصيل التي غضت المعالجة السينمائية عنها الطرف للاعتبارات الدرامية، مع الإشادة بالطبع بمستوى هذه المعالجة التي أدت إلى حصول الفيلم على جوائز أوسكار في فئاتها الخمس الرئيسية. ربما يتصور من شاهد الفيلم أنه لا داعي لقراءة الرواية، لكن مهما بلغت جودة الفيلم فهي تفرض رؤية صانعيه، أما القراءة فتمنح كل قارئ تصوره الخاص وتأويلاته المنفردة وتداعياته الناتجة عن الإحالات المتضمنة في الرواية.
ومن ناحية الذائقة الشخصية، فُتنت بشخصية هانيبال لِكتر ووجدتها مقنعة، بل جذابة، رغم محاولتي ألَّا أعترف بذلك لنفسي. تميز لكتر بتناقُض فكره وخطابه البليغ وسلوكه المهذب مع أفعاله الرهيبة عن الأشرار النموذجيين، وهكذا انتقل من مجرد شرير إلى شخصية ذات عمق نفسي وفلسفي كبير. تشابكت حواراته مع تأملات فلسفية وإحالات أدبية وفنية كلاسيكية ضمَّنها المؤلف لتوفير السياق لأفعال لكتر وأفكاره المستكشفة لموضوعات الحضارة مقابل الوحشية، والسيطرة مقابل الفوضى، والعقلانية مقابل الجنون. لم يكن لِكتر مجرد استنساخ لأسلافه في أدب الرعب، لم يكن مجرد شخصية وحشية، بل كان مثقفًا حقيقيًّا، يتناقض سحره وذكاؤه على نحو صارخ مع طبيعته المروعة. رأيت أن محادثاته مشبعة بالعلم والمعرفة، ورؤاه في علم النفس البشري عميقة، وتفضيلاته في الفن والموسيقى تدل على ذائقة رفيعة. لكتر شخصيةٌ مخيفة لكنها محفِّزة فكريًّا، شخصية معقدة تتحدى التصنيف السهل، وخصم يتمتع بحضور كاريزمي مظلم.
- ما التحديات التي واجهتها أثناء ترجمة الكتاب؟
أقوى التحديات كان فك طلاسم حديث لكتر إلى كلاريس، الممتلئ بالإحالات إلى الشعر والأدب والأعمال الفنية والموسيقية، وفي سبيل ذلك قرأت عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات عن الرواية وأضفت هوامش في أضيق الحدود. يلي ذلك المصطلحات الجافة في سياق العمليات والأوامر الشُّرَطية والتفاصيل الواردة في الرواية عن أنواع الأسلحة وذخيرتها، بالإضافة إلى كثير من التفاصيل عن فصائل الحشرات الوصف داخل متحف التاريخ الطبيعي بواشنطن، التي ربما تصيب القارئ بالملل إذا لم يكن على دراية بهذه التفاصيل أو لم يتمكن من تصورها أو البحث عن صور موضحة لها. كان البديل ملء الرواية بالهوامش الشارحة التي لا يفضلها قطاع عريض من القراء، فتُركت لذكائهم وشغفهم بالبحث. وبعد ذلك تأتي وفرة التعبيرات الاصطلاحية العامية، والكلمات التي كانت عادية في القرن الماضي وأصبحت مسيئة في القرن الحالي، والمتعلقة مثلًا بوصف حجم الجسم والميول الجنسية. ومثل أي مترجم ينغمس في العمل الذي يترجمه لشهور، ألقت أحداث الرواية عليّ بثقلها وأحاطتني بأجوائها النفسية القاتمة، لكن بين حين وآخر بددت وفرةٌ من المحادثات الذكية والتلميحات الظريفة والانتصارات الصغيرة التي حققتها البطلة تلك الأجواء وصولًا إلى النهاية المفاجئة بعد انكشاف طبقات اللغز طبقة بعد أخرى.
- ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟
أمامي ترجمة عمل كلاسيكي لم تسبق ترجمته من أدب الرحلات، والمشاركة في ترجمة عدد من الأعمال الكلاسيكية التي أعيد إنتاجها في صورة كوميكس، وأعمل حاليًا على مراجعة ترجمتي لكتاب غير روائي عن دور الكتب والمطبوعات في أزمنة الحروب.
- ما الذي جعلك تتجهين لمهنة الترجمة؟
عمي، بشير السباعي، وأستاذي الذي أعتبره أبي الروحي، خليل كلفت. كان لكل منهما طريقته التي جعلتني أحب الترجمة وأدرسها وأعمل بها، تعلمت من عمي بشير الأمانة الصارمة في نقل العمل، وأرشدني أستاذي خليل كلفت إلى الجوانب الإنسانية الرهيفة في علاقة المترجم بالنص الذي يعمل عليه، فدرست الترجمة وصارت مهنتي الوحيدة. الترجمة تفتح أمامي نوافذ ومسارات ربما لم تكن ستتبدى لي إذا عملت في مهنة أخرى تؤهلني لها دراستي الأساسية في المحاسبة أو دراستي العليا في علوم الكمبيوتر. أحببت دراسة الترجمة ووجدت نفسي في العمل بها، وأمارسها منذ أكثر من 11 سنة. كانت حصيلتها ترجمات تنوعت بين الأدب المقارن والرواية والأنثربولوجيا والتاريخ والفن والمساعدة النفسية، بلغ عددها 14 كتابًا عن الإنجليزية، صدر نصفها وأنتظر صدور النصف الآخر. كما شاركت في عدد آخر من الترجمات عن دور مختلفة بالاشتراك مع المترجمة المصرية النرويجية شيرين عبد الوهاب آخرها «الميراث والوصية» لفيجديس يوت عن دار الكرمة و«الاسم الآخر» للفائز بنوبل يون فوسه عن دار أثر و«المنزل ذو النوافذ العمياء» لهربيورج واسمو عن دار المحروسة.
- ما التحديات التي تواجهها المترجمات إلى العربية؟
لا أعتقد أن التحديات التي تواجهها المترجمات تختلف عن التحديات التي يواجهها المترجمون. كلنا نعمل مثل أي شخص من أجل أن يلبي احتياجاته الحياتية ثم يلبي احتياجاته المعنوية بنفس تدرج هرم ماسلو. مهنتنا بأكملها تواجه تحديات صناعة النشر في البلاد العربية التي تحكمها معايير السوق للأسف من عرض وطلب وغلاء أسعار كل مقومات تلك الصناعة مع جعل حقوق المترجم في آخر قائمة تلك المقومات، وبالتالي تتدخل هذه المعايير في اختيار المعروض من الكتب لترجمتها.
- هل يمكنك أن تصفي لنا طريقتك في الترجمة، مثلًا كم مسودة تعملين عليها؟ وما القواميس والمراجع التي تعتمدين عليها؟
أقرأ عن الكتاب أولًا، وعن الكاتب، لا أقرأ الكتاب قبل العمل، أترك لنفسي متعة الاكتشاف مثل أي قارئ، وأي شيء أتداركه في المراجعة، مرة مع الأصل الإنجليزي ومرة بالتركيز على الترجمة العربية. المراجع تختلف حسب مجال كل كتاب، ممتنة للأبحاث والدراسات المنشورة على موقع Academia، ساعدتني أكثر من مرة، وإذا كانت هناك إحالات في النص الأصلي أرجع إليها بالقدر المطلوب للحفاظ على الوقت والتسليم في المواعيد المحددة. تقابلني الصعوبة الحقيقية إذا تضمن النص اقتباسات عربية يجب ردها إلى أصلها، فقد لا يكون هذا الأصل متاحًا لأي سبب، كما حدث أثناء ترجمة كتاب «رحلة هاملت العربية» فقد كانت بعض الاقتباسات من أعمال لم تُنشر أصلًا وحصلت المؤلفة على صور مخطوطاتها من أصحابها أو من أسرهم، وأمدتني بها مشكورة عن طريق البريد الإلكتروني. في حالة كتاب «قراءات في أعمال نوال السعداوي» لم أعثر على الأعمال القديمة غير المشهورة لنوال السعداوي، حتى أنها لم تكن متاحة لديها عندما تواصلت معها، فلم يكن هناك مفر من ترجمة بعض الاقتباسات. أما القواميس فأعتمد بالأساس على القواميس أحادية اللغة، مثل أكسفورد ومريام وبستر وفارلكس، وعلى البحث عن معاني التعبيرات الإصطلاحية في سياقاتها، لأن التعبيرات العامية أصبحت منتشرة بكثرة في النصوص المكتوبة بالإنجليزية ولا تجد معناها الدقيق إلا عند أهلها، بالإضافة إلى القاموس النفيس.