حوار مع المترجم | كتاب “بحر من الخشخاش” من ترجمة سحر توفيق

حوار مع المترجم | كتاب “بحر من الخشخاش” من ترجمة سحر توفيق

نتحدث في هذا الحوار مع المترجمة سحر توفيق، عن ترجمتها لكتاب “بحر من الخشخاش” لمؤلفها أميتاف غوش، الصادر عن مشروع «كلمة» للترجمة في دائرة الثقافة والسياحة بأبو ظبي عام 2020. أجرت الحوار د. سماح سليم.

هل يمكن أن تقدمي لنا نبذة عن الكتاب ومؤلفه؟

الكتاب هو رواية بعنوان بحر من الخشخاش (Sea of Poppies) من تأليف الروائي الهندي أميتاف جوش Amitav Ghosh. وهي الجزء الأول من ثلاثية وضعها المؤلف تحت عنوان “ثلاثية أيبس” (The Ibis Trilogy)، تناول فيها حرب الأفيون التي دارت بين بريطانيا والصين في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

المؤلف، أميتاف جوش، روائي هندي بنغالي، ولد عام 1956، درس في جامعات دلهي والإسكندرية وأوكسفورد، وحصل على الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الاجتماعية. حصل على العديد من الجوائز من الهند ومن خارجها، ورفض جائزة كتاب الكومنولث لاعتراضه على مصطلح “الكومونولث”، وعلى الظلم المتمثل في شرط اللغة الإنجليزية، وهو عضو الجمعية الملكية للأدب في بريطانيا، وله أعمال روائية وإبداعية عديدة، بالإضافة إلى أعمال أخرى غير إبداعية، وسبق ترجمة بعض كتبه إلى اللغة العربية، ومنها: القصر الزجاجي The Glass Palace، في الأرض العتيقة In An Antique Land

هذه الرواية هي الجزء الأول من ثلاثية كتبها أميتاف جوش بعنوان “ثلاثية أيبس”، والثلاثية تتناول حرب الأفيون التي شنتها بريطانيا على الصين في عام 1840 واستمرت لمدة عامين، ثم دارت حرب ثانية اشتركت فيها فرنسا أيضًا بين عامي 1856-1860. كانت بريطانيا تريد فرض بيع الأفيون على الشعب الصيني كما فرضت زراعته على الشعب الهندي، وذلك للأرباح الكبيرة التي نتجت عن تجارة الأفيون مع الصين.

يدور الجزء الأول من الثلاثية، بحر من الخشخاش، في الفترة السابقة على حرب الأفيون الأولى. على ضفاف نهر الجانج المقدس، وفي مدينة كالكتا وبعض البلدات والقرى المحيطة بها، ثم على السفينة أيبس، والخروج إلى المحيط. فالرواية تعتمد على أحداث تاريخية كانت علامة في تاريخ العالم أثناء العصر الكولونيالي، وعُرفت تحت اسم “حرب الأفيون”. واعتمد المؤلف فيها على دراسة عميقة ومعرفة جيدة بالمجتمع والتاريخ واللغة أو اللغات واللهجات التي استخدمها ببراعة منقطعة النظير ليعطي القارئ جو الحياة في المستعمرة البريطانية التي كانت درة التاج البريطاني في ذلك الوقت، ألا وهي الهند. 

وينطلق المؤلف من فكرة أن زراعة الخشخاش التي فرضتها بريطانيا على الهنود سادت رغمًا عنهم ملأت الحقول حتى أصبحت الحقول أشبه ببحر ولكنه امتلأ، بدلاً من الماء، بالخشخاش. ويقارن المؤلف بين تأثير الريح على أمواج البحر وعلى الخشخاش في الحقول. 

ويصور المؤلف في الرواية ويلات الإمبريالية والكولونيالية في الهند، وذلك من خلال حياة شخصيات هندية وغير هندية، من طبقات مختلفة، وقصص متداخلة تسرد لنا حياة الناس هناك، خاصة المزارعين والبحارة، وداخل هذا الإطار تتحرك سفينة وصفها النقاد بأنها أكثر السفن مأساوية بعد سفينة ملفل في رائعته الشهيرة، موبي ديك. سفينة أميتاف جوش بدأت تاريخها تحمل العبيد، ثم تحولت إلى تجارة الأفيون. في الرواية مقابلات مهمة بين تجارة العبيد التي أُلغيت ثم تجارة العمالة التي بدأت تنتشر منذ القرن التاسع عشر والتي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا، وبين أحوال الحياة التي يعيشها الهنود والصينيون الفقراء وأبناء البلدان الاستعمارية التي هيمنت على مقدراتهم وحياتهم. 

لماذا اخترتِ هذا الكتاب لترجمته؟

أعجبني الكتاب منذ قراءتي الأولى له، ورأيت أنه يتناول مرحلة تاريخية مهمة معلوماتنا عنها في الشرق الأوسط قليلة غالبًا، بالإضافة إلى أنه يتناول حياة الناس أنفسهم في ظل تلك المرحلة وظروفها القاسية، ويصور كل ذلك من خلال وصف مشوق للغاية ينطوي على كل شيء نحتاج لمعرفته حول الحياة والمجتمع، والناس وتأثير كل تلك الأحداث على حياتهم، بالإضافة إلى أنني أحببت تصويره للشخصيات وتحليله لها، في كتاب جمع أطيافًا ممثلة لنوعيات كثيرة وهامة أظن أنها كانت موجودة بالفعل وربما لا يزال بعضها موجودًا حتى اليوم. ولا أستطيع إنكار أن مما جذبني لترجمة الكتاب أيضا ما يسرده من ويلات الاحتلال البريطاني التي عانت منها مصر أيضًا. لا بد أن أضيف هنا أن المؤلف درس الأنثروبولوجيا، وعاش فترة في مصر، وكل هذا أضاف إلى خبرته بالتاريخ والحياة والميثولوجيا وقد استغل هذا الخبرات جيدًا في كتاباته فجاءت قوية للغاية وتشعرك بالإشباع، وعلى سبيل المثال، استطاع الكاتب أن يجذبني إلى الأحداث والشخصيات المرسومة بإتقان وبراعة بالغة حتى ملأني الإشفاق على بعض الشخصيات والإعجاب بالبعض الآخر، ووصلت بي كراهية بعض الشخصيات إلى درجة أنني شعرت بالارتياح لمصيرها الفادح في النهاية، استطاع المؤلف أن يجعلني أشعر بالشماتة في تلك الشخصيات.

ما التحديات التي واجهتها أثناء ترجمة الكتاب؟

تمثلت معظم التحديات في اللغة، فقد استخدم المؤلف العديد من الألفاظ والتركيبات المأخوذة من لغات متعددة، وخاصة اللغة التي يسميها “لغة اللسكر”، أي البحارة الهنود، وهم في الواقع ليسوا هنودًا فقط وإنما تشكيلة من جنسيات مختلفة وتكونت لديهم على مر الزمان لغة مشتركة من كلمات مأخوذة من كل تلك اللغات. كان من التحديات أيضًا بعض المعلومات التاريخية الخاصة بعدة جوانب في الرواية، لكن معظم هذه المعلومات في الواقع أصبح العثور عليها أسهل كثيرًا مما كانت عليه في زمن ما قبل البحث على الشبكة. على سبيل المثال استعانته بالعديد من الصور المأخوذة من الميثولوجيا، كان من المهم بالنسبة لي لأتمكن من الترجمة الجيدة أن أفهم بشكل كامل القصص وراء هذه الصور، الأساطير التي ترمي إليها، وهذا وجدته بسهولة على الإنترنت. هناك أشياء أخرى لم يكن من الممكن فهمها دون الرجوع إلى المؤلف نفسه، والواقع أنه كان متعاونًا للغاية، جمعت له عددًا من الألفاظ والتعبيرات التي لم أصل إلى حل لها فأرسل لي تفسيرات جيدة، ومنها على سبيل المثال تعبير ”  drop a letter in the post box”، والذي استخدمته بعض الشخصيات للتعبير عن الذهاب إلى التواليت. 

في ثلاثية أيبس Ibis عموما ورواية بحر من الخشخاش يشكل المحيط الهندي تحديدًا فضاء خاصًا للغاية، فكيف ترين الدلالة الرمزية والتاريخية لهذا الفضاء الجيوجرافي عند جوش؟

الواقع أن تصوير جوش للمحيط الهندي أثار دهشتي كثيرًا، ربما لأنني أنا نفسي ليس لي خبرة بالمحيط، أثار عجبي ورغبتي في رؤية المحيط وتجربة الحياة على مياهه من ناحية، ومن ناحية أخرى أثار خوفي من غضبه وظلامه وأمواجه. وتصويره الرائع لظواهر الالتقاء بين مياه المحيط ومياه النهر، هذه صورة أخرى مختلفة تمامًا عما أعرفه من الالتقاء بين البحر المتوسط ونهر النيل، وهي صورة أخرى لا يصفها بدقة “مرج البحرين يلتقيان”. من المصطلحات التي أعجبتني كثيرا وصف “المياه السوداء” للمحيط، وهو تعبير دارج في تلك المنطقة، وفي ذلك الزمن الذي تصوره الرواية، هذا التعبير إلى جانب تصويره لنظرة الناس في ذلك المكان والزمان إلى المحيط، ذلك العالم المجهول والمظلم، فهو ينقل إلى النفس شعورًا بهذا الظلام وهذا الدخول في المجهول. ويشعرك بذلك الغموض الذي يجعل عبوره سببًا في فقدان الإنسان لمكانته في التراتبية الصارمة للشعب الهندي، المحيط هو عالم في حد ذاته وهو الخروج من العالم كما نعرفه، هو حياة يكتنفها الظلام والغموض والفوضى والغضب العارم عندما يهتاج ويستغرق في ثورته التي قد تبتلع أي شيء. وهو حاجز هائل ينبغي عبوره للخروج من عالم بغيض تحت سيطرة دول بررت لنفسها كل وسائل استغلال الشعوب لاستخلاص المزيد من الربح. 

تعدد اللغات في بحر من الخشخاش بالفعل شيء مدهش ومبهر بالنسبة للقارئ باللغة الإنجليزية، فجوش لا يكتفى فحسب بوضع كلمات خاصة جدا بلغة البحارة في ذاك الزمن البعيد وانما  كثيرًا ما يستخدم كلمات دارجة ممزوجة من عدة لغات، وهنا تصبح متعة القارئ كامنة في فك شفرة هذه الكلمات المركبة المرحة. هل يمكن أن تعطينا مثالًا لهذه الظاهرة وتتحدثين قليلًا عن كيف واجهت ترجمة هذه اللغة الخاصة؟ فهل اضطررت مثلًا لاختراع لغة عربية جديدة كفيلة بالتعبير عن كينونة الـ creole والـ creolité التي تحتفي بها الرواية؟ وهل ممكن تعطينا نبذة عن آليات وإستراتيجيات الترجمة اللتي لجأت اليها في هذه المهمة شبه المستحيلة؟

تعدد اللغات هذا هو ما واجهني كأصعب شيء في هذه الرواية، لم يكن أمامي فقط أن أحاول فهم كل كلمة، وقد ذكرت أن هذا تغلبت عليه في معظم الأحوال عن طريق اللجوء إلى الإنترنت ثم في النهاية جمعت كل الكلمات التي وقفت أمامي وأرسلتها إلى المؤلف نفسه ليفسر لي المقصود بها. ولكن أيضا كيف أنقلها إلى اللغة العربية وكيف أنقل إلى القارئ الإحساس بها، وقد لجأت إلى استخدام بعض الكلمات العامية، وبعض الكلمات التي نقلت صوتها إلى الحروف العربية مع ما يوضح المقصود بها في الحوار، ومن ذلك ما جاء في حوار مستر داوتي مع زكاري وهو يحكي له عن “الزميندار” مستخدمًا عددًا من الكلمات الغريبة غير المفهومة والتي تساءل زكاري أكثر من مرة عن معنى بعضها، وكان من الضروري أن أوضح مدى الغرابة في ألفاظ مستر داوتي الذي عاش حياته بين بريطانيا والهند وتعامل مع البحارة ذوي الجنسيات المختلفة، أيضا نفس كلمة “زميندار” والتي تعني صاحب الأطيان أو صاحب العزبة أو “الزميندارية”، وإلى استخدام بعض اللهجات المصرية أو العربية ولهجة بعض الجنسيات التي تنطق العربية بطريقة مختلفة، وفي ذلك يمكن أن نرى طريقة السرانج علي في نطق الكلمات والتي حاولت بها أن أحاكي الطريقة التي وضعها المؤلف نفسه، مثل استخدام كلمة “مالوم” وهي تعتبر تحريفًا لكلمة “معلم” التي يُقصد بها “القائد”، وكلمة “صاحب” وهي كلمة هندية فعلًا تعني شخصًا من مرتبة أعلى، وحتى تركيب الجملة على لسان بعض الشخصيات مثل السرانج أو باريمال وضعته بطريقة لا تتفق مع تركيب الجملة العربية السليمة، لنقل الإحساس باللغة الهجينة التي يستخدمونها.

هل تنوين ترجمة الجزء الثاني والثالث من هذه الثلاثية؟ هل هناك صعوبات في ايجاد دار نشر لمشروع كبير كهذا؟

أتمنى أن أتمكن من ترجمة الجزئين الثاني والثالث، لا أعرف إن كنت سأنجح في ذلك، فاستخدام تلك اللغة الهجينة مكثف بشكل أكبر فيهما، أظن أن المهمة ستكون أكثر صعوبة ولكن التحدي الأكبر يجذبني كثيرًا. ولا أعرف إن كان من الممكن إيجاد دار نشر أخرى لمثل هذا المشروع، لكني أرجو أن توافق دار كلمة في أبو ظبي على أن أستكمل هذا المشروع الكبير، لأنني أتمنى أن تكون الأجزاء الثلاثة صادرة من نفس الدار. 

ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟

أمامي الآن كتاب كبير حول ما قبل التاريخ في مصر والشرق الأوسط، الكتاب تحت عنوان Prehistoric Egypt: Socioeconomic Transformations in North-East Africa from the Last Glacial Maximum to the Neolithic, 24,000 to 6,000 cal BP، وقد اقترحت عنوانًا له: مصر قبل التاريخ: التحولات الاجتماعية-الاقتصادية في شمال شرق إفريقيا منذ ذروة آخر عصر جليدي إلى العصر الحجري الحديث 24000-6000 ق.ح.، وهو من تأليف جيوفري جيه. تاسي G. J. Tassie. يتناول الكتاب مرحلة تاريخية قل الإقدام على دراستها، ورغم أهميتها البالغة لم تنل من الاهتمام ما يكفي خاصة في مصر. إنها مرحلة من تاريخنا الموغل في القدم، مرحلة تبحث أصولنا العتيقة وكيف تحولت الحياة في هذه المنطقة من العالم، والتي انطلقت منها تحولات هامة جديرة بأن ندرسها، أو على الأقل أن نتعرف عليها.  

في نفس الوقت، أنا بانتظار صدور ترجمتي لكتاب بيتر جران تحت عنوان : الاستشراق: هيمنة مستمرة (The Persistence of Orientalism)، وسوف يصدر عن المركز القومي للترجمة. هذا الكتاب أعتبره من أهم كتب بيتر جران الذي سبق أن قدم لنا ثلاثة من أهم الكتب التي تتناول مصر والشرق الأوسط في العصر الحديث، أولها صدر في 1979: Islamic Roots of Capitalism والذي تُرجم تحت عنوان: الأصول الإسلامية للرأسمالية، والثاني في 1996: Beyond Eurocentrism: A New View of Modern World History وترجم بعنوان ما بعد المركزية الأوروبية: نظرة جديدة في تاريخ العالم الحديث، والثالث: The Rise of The Rich وهو الكتاب الذي ترجمته تحت عنوان: صعود أهل النفوذ. وكتاب The Persistence of Orientalism أو الاستشراق: هيمنة مستمرة، هو كتابه الرابع، ويتناول مجموعة من الكتابات التي تناولت تاريخ مصر الحديثة، وركز فيه بالتحديد على كتابين صادرين بمناسبة الاحتفال بمرور مائتي عام على الحملة الفرنسية، كل كتاب منهما يضم مجموعة من المقالات لعدد من المؤلفين، الأول باللغة الإنجليزية لمؤلفين أنجلو-أمريكيين، والثاني باللغة العربية. يحاول جران في هذا الكتاب التأكيد على أن مصر لم تكن هي الأميرة النائمة التي أيقظتها “قبلة” ذلك “الأمير” الذي تمثله الحملة الفرنسية، ويكشف عن النظرة التقليدية والبارادايم التقليدي في تناول مصر الحديثة من منطلق العقيدة الراسخة بأنها منذ زمن فرعون موسى هي النموذج الممثل للمستبد الشرقي، ويبين مدى تغلغل هذه النظرة العقيمة في المؤلفات الغربية بشكل عام، ويقارن بين الكتابين مع توضيح النظرة المصرية المختلفة والتي بدأت تتسرب بالفعل إلى بعض المؤلفات الغربية في هذا المجال. يوضح جران أيضًا في كتابه استمرار هذا المنهج في الكتابات الغربية حول مصر خاصة رغم تغيره بالنسبة لبلدان أخرى.

ما الذي جعلك تتجهين لمهنة الترجمة؟

الواقع أنني كنت أميل إلى تعلم اللغات بشكل عام منذ طفولتي، وكان اختياري للتخصص في اللغة العربية في الأساس لأنني أردت أن يكون فهمي متكاملًا حول النقل من اللغات الأخرى، الحقيقة أنني تعلمت أكثر من لغة ولكن لم أحتفظ سوى بالإنجليزية، ذلك أن اللغات الأخرى لم أتعلمها بشكل كامل، كما لم أستخدمها على الإطلاق تقريبًا مما جعلها تسقط من ذاكرتي، لا أعرف كيف، لكنني اكتشفت أنني فقدت لغة كنت قد بدأت الترجمة منها أثناء سنواتي الجامعية، وهي اللغة الفارسية، التي ابتعدت عنها تمامًا بعد الجامعة ثم اكتشفت فجأة بعد سنوات أنني لا أذكر منها شيئًا.

بدأت الترجمة بعد تخرجي من الجامعة بأعمال قليلة للغاية، بدأت بترجمة بعض الأفلام مع أنيس عبيد، ثم تقدمت إلى ترجمة بعض القصص القصيرة التي أعجبتني لتذاع في البرنامج الثاني بالإذاعة المصرية. في ذلك الوقت كنت أمارس هذه الترجمات بشكل متقطع حيث كنت أركز على الكتابة الروائية، ولم يكن لدي تصور أنني سأتحول إلى الترجمة بشكل كامل. لكنني بعد سن الأربعين تحولت نحو الترجمة، وتجرأت على ترجمة أول كتاب متكامل وهو The Pasha’s Peasants من تأليف كينيث كونو Kenneth Cuno والذي صدر عام 2000 عن المجلس الأعلى للثقافة تحت عنوان فلاحو الباشا. كانت ترجمة هذا الكتاب أول تجربة حقيقية بالنسبة لي، في ذلك الوقت تلقيت تشجيعًا من المرحوم د. جابر عصفور الذي كان أمين المجلس الأعلى للثقافة بعد أن قدمت له نموذجًا من ترجمتي للفصل الأول من الكتاب. كما تلقيت مساعدة رائعة في ذلك الوقت من المؤلف نفسه الذي كان في مصر وكان على معرفة باللغة العربية. جلسنا معًا لمراجعة الترجمة كلمة بكلمة، وقد استفدت كثيرًا من ملاحظاته لي. وبعد هذا الكتاب تلقيت درسا حقيقيًّا في الترجمة على يد اثنين من كبار المترجمين المصريين، وهما الراحل سعد زهران، وشيخ المترجمين المصريين اليوم شوقي جلال، كان العمل مع كل منهما لفترة في ترجمة بعض الأعمال كمساعدة لهما ولكن في نفس الوقت كتلميذة (رغم سني الكبير) من أهم التجارب التي أفادتني كثيرًا في الترجمة وعلمتني أن أتمسك بالصبر والإصرار على فحص وتمحيص كل كلمة من الكتب التي أقوم بترجمتها.

لقد أحببت الترجمة بكل ما فيها من تحديات، الترجمة أشبه بألعاب فك الألغاز، وهذه غواية شخصية بالنسبة لي، بالإضافة إلى كل ما تحمله من معاني الجسور الثقافية والتوسع في المعرفة، وزيادة الوعي.

ما التحديات التي يواجهها المترجمون إلى العربية؟

أهم تحديات الترجمة العربية تتمثل في اختلاف اللهجات والذي يؤدي أحيانًا إلى اختلاف أصوات الحروف، ثم الاختلاف في وضع المصطلحات، فلا توجد لجنة عربية عليا مثلًا لتسمية المصطلحات الحديثة والتي يدخل إلى اللغة الجديد منها كل يوم، وبالتالي قد نجد تسميات مختلفة لنفس المصطلح في اللغات الأخرى. من الأمثلة المضحكة التعامل مع نطق حروف مثل حرف “الجيم القاهرية”، والذي يُنطق مثل حرف g في كلمة gap في كثير من مناطق مصر، وينطق j في بلدان عربية أخرى، هذه البلدان تصر على كتابة الكلمات التي ينبغي أن يُنطق فيها مثل الجيم القاهرية “غ”، مثل “غينيا، جغرافيا، الكنغو، شنغهاي” إلخ، لا أفهم كيف لم تحاول المؤسسات اللغوية الموجودة في جميع البلدان العربية أن تتفاهم حول كتابة هذا الحرف المهم والذي بسببه ينطق الناس أسماء تلك البلدان والكلمات خطأ. هناك أيضًا ترجمة المصطلحات، مثل كلمة gender، البعض أطلق عليها “الجنوسة” واستخدم البعض الآخر “الجندرية”، بينما أصدرت اليونسكو موافقة على استخدام كلمة “النوع” للتعبير عن نفس المصطلح، والأمثلة كثيرة في هذا المجال.

من مشكلات الترجمة أيضًا أن المؤسسات التي تهتم بالترجمة لا تضع في الغالب خطة منظمة، بالإضافة إلى تدني الدخل في أغلب الأحوال بالنسبة للمترجم. دور النشر الحكومية في مصر تضع أجرًا معقولا للترجمة، وعندما أقول إنه معقول فهذا بالقياس إلى دور النشر الخاصة التي تعطي أجورًا أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها مضحكة، على سبيل المثال فإن أجر الكتاب الذي قد يستغرق ثلاثة أو أربعة أشهر من العمل الدءوب قد لا يكفي نفقات شهر للكاتب. أما دور النشر العربية، مثل الكويتية أو الإماراتية فليس من السهل التعامل معها على اعتبار أنها لا تصدر عددًا كبيرًا في العادة من الكتب، لكنها تعطي أجرا أفضل بالفعل. يمكن بالطبع أن نفهم من هذا واقع الثقافة في الدول العربية حيث نسبة القراء في الواقع قليلة للغاية بالنسبة لعدد السكان.

هل يمكن أن تصفي لنا طريقتك في الترجمة، مثلًا كم مسودة تعملين عليها؟ وما القواميس أو المراجع التي تعتمدين عليها؟

في الغالب أقوم بالترجمة الأولية ثم مراجعتها مرة أو مرتين حسبما أرى حاجة النص، ثم قراءة للنص العربي مع مراجعة أي عبارات تبدو غير مفهومة بشكل جيد، هذا يعني أربع مسودات تقريبًا، وربما خمس إذا دعت الحاجة أو عندما تصلني بروفات المطبعة. 

القواميس والمراجع متعددة، ومختلفة، منها قواميس اللغتين الإنجليزية والعربية، ومعاجم أخرى متخصصة، ويمكن أن أذكر منها: النفيس، المورد،  قاموس إلياس، والمعجم الوسيط، Webster Dictionary، وبعض المعاجم الأدبية ومعجم المصطلحات الاجتماعية، والقانونية… إلخ. هذا طبعًا بالإضافة إلى البحث على الإنترنت عن أي مصادر متاحة، وهذا كان مفيدًا للغاية في ترجمة هذا الكتاب خاصة في العبارات التي تحتوي على كلمات من لغات يصعب العثور على معاجم لها، والمصطلحات القديمة إلخ. من المدهش أن تجد على الإنترنت مراجع ومعاجم قديمة للغاية، مثل كتاب: An English and Hindoostanee naval dictionary of Technical terms and sea phrases، وهو موجود على موقع Internet Archive حيث يقولون إنه صادر بتاريخ 1813، وهي ليست الطبعة الأولى حيث يقول الموقع إن هذا الكتاب له طبعة أخرى سابقة عام 1781، وكتاب آخر بعنوان: A Glossary of Anglo-Indian Colloquial Words and Phrases and of Kindred Terms، وهو صادر عام 1886 عن JOHN MUEEAY. بعض مواقع الإنترنت تقدم هذه الكتب القديمة والمفيدة للغاية للباحثين مجانًا.

 وفي بحر من الخشخاش، وبعض الكتب الأخرى التي سبق لي ترجمتها، كان التواصل مع المؤلف مفيدًا للغاية.

اترك تعليقاً