نتحدث مع المترجم عبد الرحيم يوسف في هذا الحوار عن تجربته في ترجمة رواية “طين المقابر” الصادرة حديثًا.
عبد الرحيم يوسف هو مترجم مصري، ولد في الإسكندرية، تخرج من كلية التربية قسم اللغة الإنجليزية عام 1997 وعمل مدرسًا منذ 1998 إلى 2018، كما عمل منسقًا فنيًا بمؤسسة جدران للفنون والتنمية بالإسكندرية بالإضافة إلى عمله بالترجمة.
هل يمكن أن تقدم لنا نبذة عن الكتاب ومؤلفه؟
رواية طين المقابر هي أشهر أعمال الكاتب الآيرلندي مارتين أوكاين (1906-1970) المكتوبة باللغة الأيرلندية، والتي يرى الكثيرون أنها من أعظم الروايات المكتوبة بهذه اللغة. صدر العمل لأول مرة عام 1949. قوبل نشرها بترحيب فوري، ولكن ليس بشكل عام. وصمها أحد النقاد بأنها “كتاب قذر”، عندما كانت الكتب القذرة تُمنع بالمئات. وزعم آخر أنه لم يكن قط ليشجع اللغة الأيرلندية لو خطر بباله أنها قد تقود إلى إساءات مثل هذه. بل وقال آخر إن مثل هذا الحوار لا ينبغي أن يوضع على فم كلب. من ناحية أخرى، قرئت الرواية على نطاق واسع وبصوت عال في مسقط رأس أوكاين نفسه، وأصبحت سريعًا من أكثر الكتب مبيعًا، ونالت مكانة كلاسيكية وسط المتحدثين بالأيرلندية.
وُلد مارتين أوكاين عام 1906 في منطقة تتحدث كلها بالأيرلندية. وقد قال إنه لم يسمع قط حديثًا بالإنجليزية حتى بلغ السادسة من عمره. تلقى تعليمه ليعمل كمدرس ابتدائي في دبلن وقام بالتدريس في مدارس عديدة في أنحاء كونيمارا وشرق جالواي. وقد انخرط في أعمال سياسية جمهورية غير قانونية وفي أنشطة المجتمع وجرى فصله من وظيفته كمعلم بعد شجار مع قس الأبرشية عام 1936. وكان قد بدأ بالفعل في كتابة القصص وترجم رواية سيئة فعلا لتشارلز كيكهام Charles Kickham كي تُنشر في دار نشر حكومية حملت اسم (آن جوم). انتقل إلى دبلن بحثًا عن وظيفة لكنه استمر في أنشطته الجمهورية.
بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية بقليل، جرى حبسه دون محاكمة في معسكر اعتقال كانت الحكومة وقتها قد أقامته خصيصا للمنشقين. ورغم أنه كان قد نشر مجموعة قصصية واحدة عام 1939، إلا أنه يقال إن سنوات اعتقاله كانت سنوات تكوينه الحقيقي ككاتب. تُظهر خطاباته أنه كان يقرأ بنهم ويكتب بغزارة. لا عجب إذن أن انفجاره العظيم الأول من الإبداع حدث على الفور بعد الحرب، وهي الفترة التي كُتبت فيها هذه الرواية.
كان كاتبًا استثنائيًا، نشر خمس مجموعات من القصص القصيرة خلال حياته وواحدة بعد موته. وتضم أعماله المجموعة روايات وقصصًا ومحاضرات وخطابات ومجادلات وأوراقًا سياسية وأعمالًا تاريخية وترجمات ومقطوعات هجائية وكتابات أخرى غير مصنفة تمامًا. بعد عمله في وظائف شاقة عديدة، عُين كمحاضر للغة الأيرلندية في كلية ترينيتي دبلن بسبب معرفته العميقة والوطيدة بالأدب والتي حصَّلها نتيجة القراءة الدؤوب ومعرفته التي لا نظير لها تقريبا بالكلام الآيرلندي المعاصر. وفي النهاية عُين كأستاذ كرسي اللغة الأيرلندية في نفس الجامعة قبل عام من وفاته.
لماذا اخترت هذا الكتاب لترجمته؟
في الحقيقة عُرض عليّ الكتاب بترشيح من الناشر الأستاذ محمد البعلي مدير دار صفصافة والكاتب والناشر الآيرلندي ميهال أوكونيل، ولهذا الأمر قصة. أول كتاب ترجمته وصدر يحمل اسمي كمترجم عام 2014 كان بعنوان (حقائق ملتوية) وهو مختارات قصصية حديثة من الأدب الآيرلندي المعاصر نشره أوكونيل في دار نشره التي تحمل اسم كلو يار كوناخت، وهي ذات الدار التي أصدرت الترجمة الإنجليزية لرواية طين المقابر بالمناسبة. وقد جاء أوكونيل إلى القاهرة في العام التالي للمشاركة في مهرجان القاهرة الأدبي الذي كانت تنظمه سنويًا دار صفصافة، وأدرت ندوتين شارك فيهما أوكونيل في القاهرة والإسكندرية وتحدثنا طويلًا عن الأدب الآيرلندي الحديث واللغة الأيرلندية وتشجيع أوكونيل لترجمة الأدب الآيرلندي عن طريق اللغة الإنجليزية لندرة من يعرف الأيرلندية خارج بلدها. أهداني في رحلته هذه عددًا من الكتب التي أصدرتها داره منها أعمال له، وعددًا من أسطوانات الموسيقى الآيرلندية التقليدية التي تنتجها داره باعتبارها شركة نشر أدبي وفني أيضًا. في نفس العام، 2015، ترجمت رواية أوكونيل الأولى بين الرجال وصدرت أيضًا عن دار صفصافة. أصبحت على صلة ما بالأدب والثقافة الآيرلنديين، وعندما عُرض عليّ هذا الكتاب من الصديق البعلي وبترشيح ميهال أوكونيل وافقت على الفور بعد أن قرأت قليلا حول الرواية وأهميتها.
ما التحديات التي واجهتها أثناء ترجمة الكتاب؟
كانت عملية الترجمة شاقة وممتعة في نفس الوقت. فقد قمت بترجمة هذه الرواية التي تحمل في الأيرلندية عنوان Cré na Cille والذي يعني حرفيًا: (أرض الكنيسة) عن ترجمتين إلى الإنجليزية. حملت الأولى عنوان Graveyard Clay أو طين المقبرة وقام بترجمتها الكاتبان الراحلان ليام ماك كون أومري (1937-2019) وتيم روبنسون (1935-2020) وصدرت عام 2016 عن مطبوعات جامعة ييل بالتعاون مع دار نشر كلو يار كوناخت الأيرلندية، والترجمة الثانية حملت عنوان The Dirty Dust أو التراب الدنس وقام بترجمتها إلى الإنجليزية الكاتب آلان تيتلي (1947) الذي كنت قد سعدت بترجمة بعض قصصه في كتاب (حقائق ملتوية). وقد صدرت ترجمة تيتلي لروايتنا هذه عام 2015 عن مطبوعات جامعة ييل بالتعاون مع دار نشر كلو يار كوناخت أيضًا. وبالتالي فهذه الترجمة مدينة لعمل ثلاثة مترجمين كبار بذلوا جهدًا كبيرًا في نقل هذا العمل الضخم والاستثنائي إلى الإنجليزية بعد ما يقرب من خمسة وستين عامًا على نشره لأول مرة بالأيرلندية ليمثل علامة هامة في حياة كاتبه وفي تاريخ الأدب الحديث المكتوب بالأيرلندية.
إذن فقد اعتمدت في ترجمتي هذه على الترجمتين السابق ذكرهما، حيث كانت المقارنة بين ترجمة كل جملة تساعدني كثيرا في الوصول إلى معنى أوضح وربما إلى صياغة أقرب. رغم أن الترجمتين كانتا أحيانًا تختلفان في مواضع -قليلة- إلى حد التناقض؛ لكني في ذلك كنت أميل إلى الأكثر منطقية منهما في سياق الموضع نفسه. وإن كنت بشكل عام ملت للترجمة الأولى؛ ترجمة أومري وروبنسون لوضوحها وبساطتها، حتى أني ملت لترجمة عنوان الرواية الذي اختاراه، برغم إعجابي كالعادة ببراعة الصياغة لدى آلان تيتلي، الذي حاول في ترجمته الاقتراب من عامية الحديث أغلب الوقت، وهو ما حاولته أنا أيضًا. كما اعتمدت في الهوامش المرفقة كثيرًا على هوامش أومري وروبنسون التي زودا بها العمل، وأشرت إليها في حينها بعبارة (من هوامش الترجمة إلى الإنجليزية)، بينما لم يقم تيتلي بوضع هوامش كثيرة في ترجمته، وإن استفدت منها أيضًا. بالإضافة إلى الهوامش التي رأيت ضرورة إضافتها لمزيد من التوضيح.
ما مشروعاتك القادمة في الترجمة؟
أترجم حاليا لدار نشر كويتية ناشئة كتابًا صدر العام الماضي لمذيع البي بي سي الشهير ديفيد أتينبارا المعلق المخضرم (95 عامًا) على برامج الحياة البرية، يحمل الكتاب عنوان (حياةٌ على كوكبنا… إفادتي كشاهد ورؤية للمستقبل) وهو يجمع بين السيرة المهنية للكاتب وشهادته على ما شهده كوكب الأرض من تراجع في الحياة البرية وتغيرات مناخية كارثية في حياته، ورؤية منذرة وحذرة من مستقبل أكثر كارثية إن لم تتحرك البشرية لإعادة البرية إلى العالم على حسب تعبيره.
ما الذي جعلك تتجه لمهنة الترجمة؟
تخرجت من كلية التربية قسم اللغة الإنجليزية عام 1997 وبعدها بعام عملت مدرسًا في وزارة التربية والتعليم. وخلال الأعوام التالية، ومع دخولي الوسط الأدبي والثقافي كشاعر عامية، كانت لي تجارب في الترجمة الأدبية ضمن مشاريع جماعية هنا في الإسكندرية لم يقدر لبعضها الظهور أصلًا، لكن في عام 2005 انضممت إلى هيئة تحرير مجلة أدبية ثنائية اللغة (عربية/إنجليزية) مع الشاعرة الأمريكية أندريه يانج والشاعر المصري خالد حجازي والشاعر والمترجم المصري سامي إسماعيل وضمت هيئة التحرير الكاتبة أميمة عبد الشافي كمراجعة لغوية والكاتب والفنان ماهر شريف كمصمم فني. صدر من هذه المجلة ثلاثة أعداد حتى عام 2009 وكانت تجربة هامة بالنسبة لي في الترجمة الجماعية والتحرير. ظلت كل هذه الجهود في حدود الهواية، لكن في عام 2012 أتيحت لي فرصة العمل كمترجم بالقطعة في مكتب هيومن رايتس ووتش في القاهرة وهي التجربة التي دشنت احترافي للعمل كمترجم وتعلمت منها الكثير سواء في ضرورة الالتزام بالسرعة والدقة أو حتى في تقنيات الترجمة خارج البراح والصعوبات التي تتضمنها الترجمة الأدبية. بعد ذلك ومع إغلاق مكتب هيومن رايتس ووتش ترجمت عدة تقارير لليونسكو ومنظمة الأمم المتحدة للسكان ووجدت أن الترجمة أصبحت هي المهنة التي أفضلها وأشعر بالتقدير فيها مقارنة بالتدريس. لذلك عندما عرض عليّ الصديق محمد البعلي ترجمة كتاب حقائق ملتوية أثناء لقاء عجيب جمعنا في معرض فرانكفورت للكتاب وافقت وبدأت رحلة الترجمة لهذا الكتاب الذي استغرق عامًا ونصف العام. وبعدها لم تتوقف الرحلة سواء مع صفصافة أو غيرها من دور النشر المحترمة التي عملت معها، وجاءت جائزة الدولة التشجيعية في الترجمة التي حصلت عليها عام 2017 لتشعرني أن اختياري كان سليمًا، وتركت العمل بالتدريس عام 2018 وتفرغت للترجمة.
ما التحديات التي يواجهها المترجمون إلى العربية؟
لا أستطيع الزعم بمعرفتي للتحديات التي يواجهها المترجمون بشكل عام في مصر، لكن يمكنني الحديث عما أواجهه من تحديات طبعًا، وستكون هذه ربما شخصانية مبالغًا فيها أو هروبًا من السؤال. لذلك يمكنني الإحالة إلى مئات الإجابات التي قدمها ويقدمها المترجمون في حواراتهم أو مقالاتهم أو مقدماتهم، أو الإحالة إلى المؤتمرات التي تُعقد والتوصيات التي تخرج. يتحدث المترجمون كثيرًا عن مشكلات من قبيل عدم وجود كيان نقابي أو تجمع مهني يضم المترجمين خارج الكيان العقيم المسمى باتحاد الكٌتاب. كما يتحدثون عن الصعوبات التي يواجهونها في الحصول على حقوقهم المادية التي كثيرًا ما تكون أقل مما يستحقون أصلًا. نتحدث كمترجمين عن قلة فرص التدرب والاهتمام بالتكوين المعرفي والمهني للمترجم خارج حدود الأكاديميا والكيانات الرسمية النائية. لكني أعتقد أيضا أن التحديات ماثلة في غموض وتشوش الرؤية الثقافية لجميع الأطراف، التحديات ماثلة في إكليشية التحديات نفسها وتكرارها الممل والاكتفاء بطرحها دون محاولة تجاوزها أو مواجهتها.
هل يمكن أن تصف لنا طريقتك في الترجمة، مثلًا كم مسودة تعمل عليها؟ وما القواميس أو المراجع التي تعتمد عليها؟
أنا أعمل مباشرة على اللاب منذ بدأت الترجمة الاحترافية، قبل ذلك كنت أترجم على الورق وأكشط وأشطب وأعيد تبييض الترجمات خلال فترة مجلة مينا مثلًا. الآن لا مسودات لديّ، فأنا أنتهي من ترجمة المقال أو الكتب وأقوم بمراجعته كاملًا وتصحيحه، ثم أراجع نسخة البي دي إف من الكتاب قبل طباعته لمحاولة تقليل الأخطاء قدر المستطاع. وأعتمد على القواميس المتاحة على الإنترنت، وبالأخص: The Free Dictionary وDictionary.com وCambridge Dictionary وMerriam-Webster Dictionary وغيرها من القواميس التي يمكن أن تساعدني في معرفة نطق اسم ما أو غيرها. وأبحث مستخدمًا محرك البحث جوجل عن الإشارات الثقافية سواء للأماكن أو الأشخاص أو التعريفات… إلخ.
طريقتي في الترجمة رغم أن كل كتاب له ظروفه لكنها تبدأ عادة بالقراءة حول الكتاب نفسه، أبحث عن المقالات المكتوبة حوله لتقدير مدى أهميته، ثم أقرأ جزءًا من الكتاب لتقدير قدرتي على ترجمته وفهمه والتعامل مع أسلوب الكاتبة/الكاتب. ثم أبدأ الترجمة متعثرًا غالبًا قبل أن أشعر بتمكني من استيعاب الأسلوب جيدًا والانطلاق بعدها. إذا كانت الكاتبة/الكاتب من الأحياء أحاول التواصل معها/معه لتوجيه الأسئلة وإبداء الملاحظات حال وجودها، وهو ما تحقق بطريقة مفيدة جدًا مع كتاب مثل البروفيسورة مينيكه شيبر والكاتبة الويلزية ريتشيل تريزايس والكاتب المصري الأمريكي ياسر السيد والكاتبة المالطية كلير أتسوباردي.