يضع كل العمال ذواتهم في عملهم، مما يحوِّل ساعات حياتهم إلى سِلع. ولكن ثمة أشكال معينة من العمل الثقافي تُصوَّر على أنها تعبير عن ذات العامل، بينما لا ينطبق ذلك على معظم صور العمل الأخرى.
مقاربة مادية للترجمة
مقال صوفي دروكمان – فيلدشتاين
ترجمة أميرة علي دغيم
نشر على موقع قراءات في الترجمة عام ٢٠٢٠
صوفي دروكمان – فيلدشتاين: تدرس الكتابة الإبداعية والترجمة الأدبية في كلية أوبرلين، ونُشِرت أعمالها في مجلة «إن ذيس تايمز» (In These Times) وصحيفة «ذات أوبرلين ريفيو» (The Oberlin Review)، كما أنها مُنسِّقة الشعر في دورية «تو جروفز ريفيو» (Two Groves Review)
تَكمُن خطيئة المترجم في تعديه على الخرافة التي تكتنف صوت المؤلف الفرد. لذا يمحو المجال الأدبي وجود المترجمَ بُغية الحفاظ على المفهوم المثالي الليبرالي للعبقرية الفردية. لكن هذا المحو ليس مشكلة تتفرَّد بها الترجمة، بل هو تعبير عن اغتراب العامل عن نِتاج عمله. في الواقع، ما هو غير اعتيادي في هذه المسألة هو سردية التأليف التي تصوِّر الأدب بأنه إحدى السلع القليلة التي —بدلًا من أن تنفصل عن العامل المُنتِج لها— تُعَد امتدادًا لذاته. ومن خلال الدفع بأن الترجمة فنٌ، تنصرف نظرية الترجمة صراحةً عن التصدي لقضية الاغتراب، وتسعى بدلًا من ذلك إلى منح المترجمين صور التقدير غير الاعتيادية التي يحظى به الكُتّاب.
عندما نتحدث عن صعوبات التواصل اللغوي، نجد أن إحدى القصص الرمزية التي يُشار إليها عادةً في هذا الصدد هي قصة برج بابل. في هذه القصة، كان الناس جميعًا يتحدثون لغة واحدة، وحاولوا معًا أن يبنوا «مدينة وبرجًا رأسه بالسماء» (سفر التكوين 11: 4). فغضب الربُّ من استكبارهم وبلبل ألسنتهم، ما أصابهم بالحيرة وأحبط خططهم.
لعل الشيء الأكثر لفتًا للنظر في هذه القصة ليس ما توضحه عن تحديات التعددية اللغوية، بل ما تنطوي عليه من اعتقاد بأن العبقرية البشرية الجمعية تكاد تصل إلى الألوهية. وذلك لأن الغرض المعُلَن لبناء البرج كما جاء على لسان مشيديه «لئلا نتبدد على وجه كل أرض» (سفر التكوين 11: 4)، أي الحفاظ على القوة التي يتضمنها وجودهم كجماعة متحدة. وعندما رأى الربُّ المدينة والبرج، قال «هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه» (سفر التكوين 11: 6). بعبارة أخرى، الجماعية —أي الوجود في صورة «شعب واحد»— يخلق قوة تصل في عظمتها إلى درجة تهدد الألوهية. خطيئة أهل بابل إذن هي الاستكبار، ولكنه بالتحديد الاستكبار المستند إلى ركيزة النزعة الجماعية. وما يجعل التواصل اللغوي مصدر تهديد في هذا الصدد هو أنه يسمح بتحقيق هذا التقارب بين الناس.
في عصرنا الحالي ما زال التواصل اللغوي خطيئة، لكنه اليوم خطيئة في حقِّ الصوت المُبجَّل للمؤلف الفرد. وهذا ما تُعبِّر عنه ماري آن نيومان في مقالها «ارتحالات المعنى» (Migrations of Meaning) بقولها «يُنظَر إلى أي نص سيُترجَم على أنه مثالي ونقي، وينبغي على المترجم صبَّه في وعاء لغوي جديد دون تبديل أو تحريف ينال من نقائه. وإن فعل المترجم غير ذلك، فقد ارتكب خطيئة وسقط» (112). ولكن ما طبيعة هذه الحالة المثالية أو النقية؟ في كتاب «اختفاء المترجم» (The Translator’s Invisibility)، يصف لورانس فينوتي «مفهومًا فردانيًّا للتأليف ما زال منتشرًا في الثقافة الأنجلو أمريكية» مشيرًا إلى أنه «وفقًا لهذا المفهوم، يُعبِّر المؤلف بحرية عن أفكاره ومشاعره في كتابته التي يُنظَر إليها بالتالي على أنها تمثيل أصيل وصريح للذات لا تتدخل فيه المُحدِّدات الجماعية (اللغوية، والثقافية، والاجتماعية) التي من شأنها تعقيد مسألة أصالة التأليف» (6-7). رُفِع إذن صوت المؤلف —الذي خرج كتعبير صافٍ عن روحه— إلى مكانة تُعتبَر معها التجاوزات في حق هذا الصوت خطيئة. وهذا التوقير للمؤلف الفرد يعكس القيم الرأسمالية الليبرالية.
ورغم أن المعبود صار دنيويًّا في عصرنا الحالي، تظل الخطيئة خطيئة النزعة الجماعية. نجد مثلًا في قصة خوليو كورتاثر «خطاب إلى شابة في باريس» (Letter to a Young Lady in Paris) المترجم بطل القصة يقول «كم يؤلمني أن أدخل مكانًا رتَّب ساكنه كل شيء فيه ترتيبًا بديعًا كدليل مرئي على روحه» (39). والبيت —ذلك التعبير الأمثل عن المساحة الشخصية، ومن ثم الذات، بلا تدخلات— يُمثِّل النص. وإذا كان البيت هو النص، فإن الكتابة ليست فعلًا اجتماعيًا ولا شكلًا من أشكال العمل، بل هي أنقى امتداد لشخصية المؤلف الفرد، إنها «دليل مرئي على روحه». والترجمة تهدد المفهوم المثالي للكلمات التي تأتي من مصدر واحد، وتستبدل مفهوم العبقرية الفردية لتُحِّل محله فهمًا للغة بأنها مرنة وقابلة للنقل. وبناءً عليه، يهدد المترجم خرافة الليبرالية المتعلقة بطبيعة الإنتاج الثقافي.
والسبيل الوحيد للحفاظ على هذه الخرافة هو محو وجود المترجم. ومن هذه الحاجة إلى صون الفردانية نشأت فكرة اختفاء المترجم أو «انمحاق ذاته» (فينوتي، 8)، وهو الانمحاق الذي نشهده في عدم الإقرار بأن النصوص المترجمة مترجمةً، وفي توقُّع اتباع المترجمين لأسلوب في الترجمة يُخفي تأثيرهم في النص (فينوتي). ويحدث هذا الانمحاق حرفيًّا لا مجازيًّا في قصة «خطاب إلى شابة في باريس»؛ ففي نهاية الخطاب، يخبر المترجم الشابة المشار إليها في عنوان القصة بأنه لا يعتقد «أنه سيكون من الصعب التقاط أحد عشر أرنبًا صغيرًا من على رصيف الشارع، ربما لن يلاحظهم أحد؛ فالجميع سينشغلون بالجثمان الآخر» (49-50). و«الجثمان الآخر» المذكور هنا هو بالطبع جثمان المترجم نفسه الذي يُفترَض أنه انتحر قفزًا من النافذة، ماحيًا نفسه وتجاوزاته من الشقة (النص). لكن هل الانمحاق مشكلة تنفرد بها الترجمة؟
يُعبِّر اختفاء المترجم، في الواقع، عن مفهوم العمل المُغترِب لدى كارل ماركس الذي كتب في «مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية» أن «العامل يضع حياته في الشيء الذي ينتجه، لكن حياته لا تنتمي إليه بعد ذلك، بل إلى الشيء الذي أنتجه» (72). هكذا هو الحال مع المترجمين الذين عندما يترجمون يُحوِّلون قوة عملهم إلى قيمة انتفاع يغتربون عنها. ويشير فينوتي نفسه إلى هذا البُعد المادي بقوله إنَّ «عقود العمل المأجور تجعل المترجم يغترب عن ناتج عمله على نحو حاسم لافت للنظر» (10). والحقيقة أن علاقة الكاتب بعمله هي الاستثناء لا القاعدة؛ فنظرًا للمفهوم المثالي الليبرالي للعبقرية الفردية، لا يُنظَر لعمل الكاتب على أنه سلعة، وإنما امتداد لذاته، وهو التأويل الذي يُلقي بظلال مبهمة على وضع الكاتب كعامل.
من خلال تصوير الفن بأنه امتداد خالص لذات الفنان، تستبعد السردية الفردانية للعبقرية الفنية فهم الإنتاج الثقافي بأنه عمل. وباستثناء قلة قليلة من الأشكال المُبجَّلة من الإنتاج الثقافي مثل الكتابة والفنون المرئية، تنفصل معظم السلع نظريًّا عن العُمال الذين ينتجونها. ويُعَد انمحاق الذات هذا عنصرًا اعتياديًّا للعمل في ظل الرأسمالية. يعبِّر ماركس عن ذلك قائلًا إنَّ «إنكار الذات، إنكار الحياة وكل الحاجات الإنسانية، هو مبدأ [الاقتصاد السياسي] الرئيسي … كلما قلَّ وجودك، زاد ما تملك، وكلما قلَّ تعبيرك عن حياتك، زادت حياتك المغتربة —وزاد رصيد وجودك المغترب» (96). والسبب الوحيد الذي يجعل اختفاء المترجم وانمحاقه ظاهرة مميزة هو تشابه الترجمة مع أحد أنواع الإنتاج الثقافي الذي نرفعه إلى مكانة مرموقة. وعندما نلقي الضوء على الترجمة، نجد أنها تقوم بدور غير مألوف لأنها كما هو واضح «عمل»، ولكنها في الوقت نفسه تتداخل مع الأدب الذي هو إحدى صور العمل التي نتظاهر بأنها ليست عملًا وإنما شيئًا آخر، شيئًا ينتمي لفئة «الفن» السامية غير محددة الملامح.
عن طريق الدفع بأن الترجمة فنٌّ، تسعى نظرية الترجمة إلى إفساح المجال أمام المترجمين لينالوا هذه المكانة المرموقة التي يحظى بها الأدب. وإذا كانت الترجمة «حرفة يدوية، مثل صناعة الأثاث أو الخَبز أو العمارة» (واينبرجر، 27)، كنا سنتصدى لمسألة اختفاء المترجم عن طريق مقاومة ظروف اغتراب العمل في ظل الرأسمالية، أي سنناهض بخس قيمة العمل بوجه عام. لكن نظرية الترجمة تتبِّع نهجًا أيديولوجيًّا أيسر، الأمر الذي يمكن تفهمه، وهو تسخير دور المترجم بوصفه عاملًا ثقافيًّا للمجادلة بأن الترجمة فنٌ. وبناءً على هذا التأطير، يكون اغتراب المترجم عن ناتج عمله ضارًا ليس لأن العمل المغترب ضار بوجه عام، وإنما لأن الترجمة تقوم بدور تعبيري محدد يستحق التقدير.
يظهر هذا النهج جليًا في تاريخ نظرية الترجمة؛ إذ نشأ هذا المجال الأكاديمي في الوقت نفسه الذي كان المترجمون يستعدون فيه لتقديم «مطالب جماعية للحصول على امتيازات مادية مُبرَّرة تبريرًا وافيًا، وهي: ظهور اسم المترجم بوضوح على الكتاب وفي كل الإشارات إليه، وتلقيه حصة من حقوق المؤلف والحقوق الفرعية (بدلًا من حصوله على أتعاب ثابتة —وهو ما يُطلَق عليه على نحو مهين «العمل المأجور»— دون أي دخل أو حقوق لاحقة)، وتحديد «معيار قياسي» معين في مجال الترجمة لأتعاب المترجم» (واينبرجر، 26). من الجدير بالذكر أيضًا أن «انتشار المؤتمرات والمحاضرات عن الترجمة بوصفها فنًا» (وانيبرجر، 26) تزامن مع قبول بعض هذه المطالب. هل لنا أن نتفاجأ بعد ذلك بقدر الغموض الذي يحيط بنظرية اختفاء المترجم؟ هل من المستغرب أننا نضفي شاعرية على المترجم بوصفنا إياه أنه «شبح يسكن اللغات والثقافات والأمم، ويتواجد بين عالمين في آنٍ واحد، لكن دون أن ينتمي لأي منهما انتماءً كاملًا» (إمريك، 50)، أو ننسج سردية بأن فعل الترجمة نوعٌ من «الاعتداء الشهواني»؟ (نيومان، 113) إذا كنا نثبت حقوق المترجم بوصفه فنانًا غير مُقدَّر، لا عاملًا مغتربًا، فمن المنطقي أن نحاول تفسير اغترابه بناءً على سمة أصيلة في مجال عمله بدلًا من عزو هذا الاغتراب إلى العلاقات العمالية في ظل الرأسمالية.
يضع كل العمال ذواتهم في عملهم، مما يحوِّل ساعات حياتهم إلى سِلع. ولكن ثمة أشكال معينة من العمل الثقافي تُصوَّر على أنها تعبير عن ذات العامل، بينما لا ينطبق ذلك على معظم صور العمل الأخرى. ولطالما جاء رد فعل المترجمين على هذا التقسيم الثنائي الزائف للعمل بأن حاولوا تقديم أنفسهم على أنهم فنانون لكي يهربوا من اغترابهم الحالي عن السِلع التي ينتجونها. ولكن الحل الصائب لهذه المعضلة لا يكمن في وضع المترجمين أنفسهم موضع الفنانين، بل في تقدير العمل وتمكين العمال. فيجب أن تسري ملكية المؤلف لكلماته على كل العمال —لا من حيث الإشادة الفردية، بل من حيث القوة الجماعية المادية.
المراجع:
Cortázar, Julio. “Letter to a Young Lady in Paris.” End of the Game and Other Stories. Tran. Paul Blackburn. Harper & Row, 1978.
Emmerich, Michael. “Beyond, between: Translations, Ghosts, Metaphors.” In Translation: Translators on their Work and what it Means. Eds. Esther Allen and Susan Bernofsky. Columbia University Press, 2013.
Marx, Karl. “Economic and Philosophic Manuscripts of 1844.” The Marx-Engels Reader. Ed. Robert C. Tucker. Second Edition ed.W. W. Norton & Company, 1978.
Newman, Mary Ann. “Migrations of Meaning: Women, Translation, Visibility, Invisibility”. AE-BKH Women’s Week of 2016. Mar 3, 2016, Contributions to Science.
The Jewish Study Bible. Ed. Jewish Publication Society. Second Edition. Oxford: Oxford University Press, 2014.
Venuti, Lawrence. The Translator’s Invisibility: A History of Translation. New York: Routledge, 1995.
Weinberger, Eliot. “Anonymous Sources (on Translators and Translation).” In Translation: Translators on their Work and what it Means. Eds. Esther Allen and Susan Bernofsky. Columbia University Press, 2013.
الترجمة خاصة بترجمان
تحتفظ المترجمة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتها دون إذن منها