حول ترجمة رواية “نسب” ﻷوكتافيا بتلر

حول ترجمة رواية “نسب” ﻷوكتافيا بتلر

حول ترجمة رواية “نسب” ﻷوكتافيا بتلر

مقدمة منى كريم لترجمتها لرواية “نسب” ﻷوكتافيا بتلر عن دار منشورات تكوين 2020

تحتفظ الكاتبة بحقها في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقالها دون إذن منها.


قضيت في ترجمة هذه الرواية ما يقارب العام من العمل اليومي. خرجت منها بشعور من مر برحلة تحول ميثولوجية مزقتني إلى أشلاء لتعيد تشكيلي من جديد. لا أكاد أصدق أني نفدت بجلدي من هذا العمل الروائي العصي والمتقن والذي يقدم هذه الكاتبة العظيمة لأول مرة لقراء العربية. ولدت أوكتافيا إيستيلي بتلر وترعرعت في باسادينا – كاليفورنيا في العام 1947 لتصبح لاحقًا من أهم كتاب الخيال العلمي ومن بين أوائل النساء اللواتي خضن هذا النوع من الكتابة الأدبية، بالإضافة إلى كونها أول كاتب أمريكي أسود يتخصص في هذا النوع وأول كاتب خيال-علمي يتوج بجائزة “ماك آرثر” التي تمنح سنويًا لخيرة الأدباء والفنانين والعلماء في الولايات المتحدة.

أقدم لقراء العربية أحد أهم أعمال بتلر والتي قد يتم تصنيفها ضمن ما يسمى بـ “أدب العبودية الجديد” الذي بدأ بالظهور في ستينيات القرن الماضي (ويستمر حتى اليوم) على أيدي كتاب مثل توني موريسون، مارجريت واكر، ديفيد برادلي، شيرلي آن وليامز، تشارلز جونسن، وإشمائيل رييد والذي يرجع له الفضل في إطلاق هذا المسمى. لكن “نسب” تختلف عن أقرانها في مزجها بين جماليات الفنتازيا وأدب الرحلات ومذكرات العبودية. كما أن بتلر ليست بروائية واقعية، إلا أن “نسب” تأتي كعمل واقعي تشكله الكاتبة باستغلال أداة خاصة بالخيال العلمي ألا وهي السفر عبر الزمن. 

كل أعمال بتلر السابقة واللاحقة تدور في مستقبل متخيل مظلم حيث البشر والكائنات الفضائية يتصارعون ضمن استعارة مسرحية عن التاريخ وواقع الهيمنة والاضطهاد. بذلك، اخترقت بتلر حدود الأجناس الأدبية وجاءت بمخيلة كاتب الخيال العلمي لتعالج تاريخاً شائكًا وقاتمًا بحساسية فذة وجديدة. نلاحظ كيف توظف الكاتبة خاصية الترحال الزمني لالتقاط مفارقة فلسفية كبرى ألا وهي إشكالية قراءة الماضي من موضع اللحظة الراهنة، حيث تمر سنوات الأمس وكأنها دقيقة أو صفحة أمام الإنسان الحديث. تركز بتلر على استعادة التجارب المريرة لإنسان الأمس عبر السرد المكثف والشخصيات المتعددة ولغة الجسد والحوارات التفصيلية للكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية للاضطهاد والقمع على الإنسان والجماعة. لا تكتفي بتلر بتقديم هذه الاستعادة من أجل القارئ الأسود الذي ما زال يموت ويعيش ويقاوم، بل أيضًا كمشروع إبداعي نقدي لكيفية التعامل مع الاضطهاد من الداخل عبر تقاطع عبقري بين قوة الخيال وحقيقة التاريخ، متمثلًا في التفاصيل والأصوات والأجساد.

عملت بتلر على هذه الرواية لما يقارب عشر سنوات من عمرها، قرأت فيها مذكرات العبيد والوثائق الرسمية وأرشيف الجمعيات التاريخية والخرائط القديمة لتقوم على أساسها بالتخطيط لمسارات وتحركات شخصياتها، هذا بالإضافة إلى زياراتها لولاية ماريلاند حيث تدور أحداث الرواية. سيكون جليًا أمام القارئ حجم العمل الدؤوب والتراكمي الذي بذلته بتلر لتشكيل سياقات مكانية وزمانية وثقافية حول الرواية. أرادت بتلر أن تقاوم النسيان بالذاكرة وأن تخلق استمرارية بين الماضي والحاضر، خاصة وأن هوة الحداثة تخلق وهمًا عند الإنسان المعاصر بأن ذاك الماضي تحول وبات بعيدًا، ليمحو بذلك معاناة إنسان الأمس ومحاولاته في المقاومة والنجاة. كما أن بتلر تعالج هذه الهوة في سياق محلي أيضًا حيث الاختلاف الأيدولوجي الشاسع بين السود في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بالمقارنة مع أسلافهم الذين استعبدوا. عاشت بتلر فترة راديكالية في تاريخ أمريكا حين كان أغلب جيلها من السود ينزح نحو الكفاح المسلح وينظر إلى الأسلاف باعتبارهم ضحايا أو خانعين. أرادت بتلر للقارئ أن يخلق روابط جديدة مع الأسلاف قائمة على التعاطف والترابط التاريخي لتطرح مفاهيم جديدة عن القمع والمقاومة. 

لم تأت شخصيات بتلر من كتب التاريخ فقط، بل أنها أيضًا مستوحاة من قصص شخصية في حياتها. مات والد بتلر وهي في سن صغيرة فربتها أمها وحيدة. تتذكر بتلر عمل والدتها خادمة في بيوت البيض في كاليفورنيا، كما تستدعي قصص جدتها التي انتقلت من حقول لويزيانا للعيش في كاليفورنيا ضمن ما يسمى بـ “الهجرة الكبرى” لستة ملايين من السود ممن نزحوا شمالًا وغربًا خلال عشرينيات القرن الماضي. تعترف بتلر أن العار والغضب غلبت على مشاعرها نحو أمها كلما رأتها تُهان خلال وظيفتها، وكيف يقع الواحد في خطأ لوم المظلوم، ومن ثم في حصر المظلوم في دور الضحية التي تجرده من تعقيداته وقدرته المهولة على الصبر والعيش والمقاومة. أرادت بتلر أنسنة العبيد ضد صورة الضحية وفي آنٍ واحد ضد الصور الكاريكاتورية التي خلقتها المخيلة العرقية عبر التاريخ الأمريكي (مثل ثنائية الخدم وعمال الحقل أو المرأة “المامي” التي تطبخ وتعمل على رفاهية السيد). تركز بتلر على الشخصيات النسائية، لأنها كما توني موريسون من بعدها، تريد قراءة تاريخ العبودية من موضع المرأة، لتستكشف بذلك تقاطع الاستغلال الجنسي والاضطهاد العرقي وسعي الإنسان من أجل الحرية والتعايش. هكذا أصبحت بتلر من أوائل كاتبات الخيال العلمي وبين الرائدات ممن قدمن للجماليات النسوية في الأدب الأمريكي وأيضًا نحو التنظير للنسوية السوداء. 

سيلاحظ القارئ كيف أن لغة الجسد تلعب دورًا مهمًا في العمل، فبعودة الإنسان المعاصر إلى الماضي، يجد نفسه عاجزًا عن التعبير ليكتفي بهز الأكتاف أو الإيماء باليد أو تقطيب الجبين. ولا أظن أن هذا التكنيك عبثيًا، فالعبودية، بالأخير، هي أقصى درجات استغلال الإنسان من أجل الإنتاج عبر إخضاعه وسلبه جسده. وتوضح بتلر على هوامش الرواية كيف يستمر هذا الاستغلال في ظل الرأسمالية اليوم. كما أنها تنجح في دس إشارات هنا وهناك إلى أفريقيا أو العالم العربي لأنها تعي كيف يتشارك البشر في الصراع ضد الاستغلال والاضطهاد. 

لقد اخترت ترجمة هذا العمل إلى العربية لعدة أسباب أولها أننا نفتقد لأدب الخيال العلمي وهي حقيقة لا أظن أنها مجرد مصادفة تاريخية فجذور هذا الجنس الأدبي كبرت مع طموح الإنسان الأبيض لغزو الكواكب الأخرى، متسلحًا بوعد التقدم التكنولوجي، ليصنع جبهة جديدة للاستعمار الغربي. رواية “نسب” هي نموذج مغاير تمامًا يمزج بين الواقعية التاريخية وأدوات الخيال العلمي وحتى أدب الرحلات. المؤكد أن بتلر نجحت في رسم حدود وطموحات ثقافية وسياسية جديدة لهذا الفن الأدبي من خلال عمل يهدف لخلخلة التاريخ. 

وهنا سبب آخر لترجمة هذه الرواية وهي مركزية سؤال التاريخ بالنسبة للرواية العربية المعاصرة التي تنغمس في الاسترجاع التاريخي وإعادة التسريد دون أن تنجح في “إضافة اللحم على الذاكرة” كما تقول توني موريسون في تعريفها لدور الرواية، أو تطرح معالجة نقدية للتاريخ ترتبط بواقعنا المعاصر. هذه المهمات الجسيمة للأدب لا تتحقق فقط بالمعرفة الكمية والمادية بل أيضًا بالفلسفة والرؤية السياسية وبقوة الفن والخيال على التجاوز والتسلل والخلق. تعترف بتلر أنها اضطرت للتخفيف من حدة قصص العبودية لأنها لم ترد المتاجرة بمعاناة أسلافها، فدور الأدب يتجاوز التوثيق ليذهب إلى جذور الفكرة والشعور. 

أود أن أنوه هنا أني أبقيت على النعتة العنصرية “نيجر” أو Nigger كما هي بدلًا من استخدام كلمة عربية مثل “زنجي” لأن استخدام الأخيرة في هذا السياق خطأ شائع في الترجمات العربية. كلمة “زنجي” وأصلها “زنكي” من الفارسية أي “النحاسي” كان يوصف بها السود في عصور الامبراطورية الإسلامية. ولكن في الأدب العربي الحديث تم ترجمة “negro” إلى “زنجي” وهي كلمة تحولت إلى مصطلح ثوري لحركة تحرر السود على يد المفكر والشاعر الكاريبي إيمي سيزار. بحكم حضور المفردات “نيجر” و”زنجي” و”عبد” في الرواية، أردت أن أحافظ على هذا التباين في اللغة العرقية بدلًا من إحلال ذات الكلمة في سياقات مختلفة مما قد ينتج مغالطات تاريخية بالإمكان تفاديها. والحقيقة أن لغتنا العربية تزخر بالنعوت العرقية ضد السود وغيرهم، إلا أن أغلبها غير معروفة عند القارئ المعاصر، فكم ذهلت حين اكتشفت من خلال مشهد قافلة العبيد في هذه الرواية أن مفردة coffle (تُنطق كوفل) جاءت إلى الإنجليزية من العربية في القرن الثامن عشر. وبذلك، عبر مصادفات اللغة والأدب، قد نلتقط هنا أصداء تاريخنا المنسي وهي تدّوي في حيوات الآخرين. 

اترك تعليقاً