عن الترجمة
ساندرا هتزل
ترجمة: فرح أبو يوسف، حلا الداود، سابا العكشة، نسيمة شبانة، لطيفة شريف، أنيا ماير
ترجم المقال بكلية دراسات الترجمة بجامعة ماينتس/جرمرسهايم بإذن من المؤلفة
ساندرا هيتزل من مواليد ميونخ 1980، تترجم الأدب العربي المعاصر إلى الألمانية، وتقتفي أثر الكاتبات والكُتّاب المميزين بصفتها مستكشفة أدبية منذ سبع سنوات. عاشت في ميونخ ونابولي ودمشق وبيروت وبرلين، وهي العقل المدبر وراء تجمع 10/11. حصلت على الماجستير في تخصص دراسات الثقافة البصريّة من جامعة الفنون في برلين.
نشر المقال في موقع fabrikzeitung.ch بتاريخ 14/4/2016
كنت في الثامنة عندما التقت أمّي بشريك حياتها الإيطالي آنذاك. كان أرمل ولديه طفلان في نفس عمري تقريبًا. وقد عشنا معًا كأسرة واحدة خلال فترة ارتباطهما التي امتدت من 1988 إلى 1996. كنّا حينها نتنقّل بين ميونخ وإيمولا، حتى أنني التحقت بالمدرسة الابتدائيّة في إيطاليا ردحًا من الزمن.
كان لذلك كله أثر؛ تعلّمت اللغة الإيطاليّة، وأصبح لديّ فجأة من كلّ شيء اثنان: حياتان ومجموعتا أصدقاء ونوعان من برامج التّلفاز وحيّان سكنيّان وواقعان لكلّ منهما قواعده. ولطالما استغرب أقراني في إيطاليا كوني فتاة ترتدي ملابس مستعملة وتتسلّق الأشجار. من ناحية أخرى لم أكن أفهم كثيرًا كيف أن الفتيات هناك يتصرّفن كسيّدات صغيرات، وهُنَّ لم يتجاوزن التاسعة. ويسخرن مني لأنّني لم أكن أعرف شيئًا عن ملابس الماركات العالمية! ومع ذلك، غمرني الشعور بالإطراء عندما أصبح لدي فجأة الكثير من المعجبين في الصف الثالث. كانوا يدسّون لي رسائل حب في فترات الاستراحة في مدرستي الابتدائيّة الإيطالية. أمّا في المدرسة الابتدائيّة الألمانية، فقد أتى الاهتمام بالجنس الآخر متأخّرًا نوعًا ما. كان التلاميذ من الجنسين –حسبما أذكر– يعتبرون بعضهم البعض سُخفاء، وينظرون إلى الحبّ بوصفه شيئًا مثيرًا للاشمئزاز.
بالرغم من ذلك لم أكن أبدًا، ولا حتى لاحقًا في المدرسة الثانوية المليئة بالشقراوات، من الفتيات المرغوبات مثلما كان الوضع في إيطاليا. وفي إحدى المرات سخر مني زملائي في الصف في ألمانيا، لأنني عندما أردت أن أقول “لا” لم أهز رأسي، بل طقطقت بلساني. شعرت بحرج لا يُوصف، عندما أدركت في تلك اللحظة أن ليس كل البشر على وجه الأرض يقومون بتلك الحركة.
كنّا دائمًا ما نسمع ألبوم إلفياجو (Il viaggio) لفابريتسيو دي أندريه (Fabrizio De André) في السيارة في إيطاليا. كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة، عندما بدأت أفهم نصف ما يقوله في أغانيه، وكنت متحيرّة ومندهشة في الوقت ذاته: لقد كان هناك أمرًا غامضًا ونادرًا وقاتمًا وفاتنًا في أغاني دي أندريه. كان أمرًا مثيرًا للعديد من التساؤلات ومولِّدًا للشوق تمامًا كتلك العوالم السرية الصغيرة التي كنت أتخيّلها وأنا طفلة تحت الشجيرات الظليلة.
كان دي أندريه يغني بطريقة شاعرية موحشة عن الأمور التي لم يكن يتحدث عنها البالغين من حولي، والتي كان من الواضح أنها تنتمي لعالمهم وليس لعالمي الطفولي: عن الحرب والانتحار والدعارة والحب. وكان هذا أول احتكاك لي بما يمكن أن يُسمّى بأدب الكبار؛ أي بأشياء أخرى غير مسلسل “فيلون” ورواية “قصة بلا نهاية” لميشائيل إنده وكُتب أستريد ليندغرين. بالطبع لم أشترِ أنا هذا الشريط، ولا حتى والدتي أو صديقها، بل ابنته.
فقد كنت محظوظة بأنني حظيت بما يشبه أختًا كبرى في النصف الإيطالي من حياتي. كانت تكبرني بثلاث سنوات ما يعني أنها كانت في سن المراهقة، بالإضافة إلي ذلك كانت وقتها في مرحلة أبدت فيها إعجابها “بالهيبيز”. تلك المرحلة التي أمتنّ لها كثيرًا. فأول نص أدبي باللغة الإيطالية ترجمته كان كلمات أغنية من شريط المدينة القديمة La città vecchia. تحكي الأغنية عن حي من أحياء الميناء في جنوة، اشتهر بسوء سمعته. “إذا قادتك قدماك إلى المنحدرات، ونزلت إلى الحواجز القديمة للأمواج، إلى ذلك الهواء الكثيف المثقل بالملح والروائح، ستجد لصوصًا وقتلة، وستجد ذلك الرجل الغريب الذي باع والدته لقزم”.
ولطالما أبهرني بشدة حينئذ ذلك الجزء المتعلّق بالقزم. ترجمت الأغنية إلى الألمانية لصديقة طفولتي المفضلة “أنّيكا”. وما زلت أتذكر بالضبط كيف كتبت لها الترجمة الألمانية في إحدى الرسائل بحبر أخضر برائحة المسك. (اشتريت الحبر برفقة أختي “العقيقة”، كما كنت أدعوها، من سوق الهيبيز في بولونيا.). حينها كانت “أنّيكا” أهم شخص أشاركه أفكاري. ومع ذلك كانت حياتي الإيطالية مجرد قصة بالنسبة لها، وبقي للأسف الشديد معظمها غير قابل للإيصال. ظل كل شيء سجيناً لعالمه ولغته ولم يكن بالإمكان مشاركته مع الأشخاص على الجانب الآخر. وكانت هذه الترجمة وغيرها من الترجمات اللاحقة والموجهة للأصدقاء، محاولة مني لاختراق الجدار الكائن بين العالمَين، لأن هذا الفصل بينهما كان مؤلمًا لي.
ولأن أي تفاصيل أخرى ستكون خارج إطار الموضوع، سأتقدم في الزمن ثلاثة وعشرين عامًا وصولًا إلى 2016. أعيش حاليًا في بيروت أترجم الأدب العربي وأروِّج له. ما زلت أشعر بالحاجة إلى مشاركة الأشياء التي تعجبني مع الآخرين. وهي أشياء لا يرونها لأنها توجد في لغة مختلفة. والترجمة وحدها هي من تجعل رؤيتها ممكنة. غير أن ثمة شيئًا إضافيًا –في رأيي– يمُيّز الترجمة من العربية: رغم أن العالم العربي يقع على مرمى حجر من أوروبا، لا يفصله عنها سوى البحر المتوسط، فإن الاتصال بينه وبين أوروبا ضعيف ضعفًا مخزيًّا. في وسعي أن أدّعي أن العالم العربي في نظر الشخص السويسري أو الألماني المتوسط، أو أي شخص أوروبي آخر، أبعد ثقافيّاً من اليابان مثلاً. إذا نظرنا للأمر بموضوعية، فهذا الكلام هراء محض. ولكن لا عجب منه، لأن كلمة “عربي”، التي هي في الأصل مجرد تسمية مثلها مثل كلمة “إيطالي”، تُستخدم باستمرار كمرادف لأشياء كثيرة: من “إسلامي” إلى “متخلف” وصولاً إلى “عدواني” عندما يتعلق الأمر بالرجال، أو “مُضطهَدة” عندما يتعلق الأمر بالنساء.
بصرف النظر تمامًا عن مدى عدم دقة مثل هذا الخلط، والذي بموجبه لا بد أن يكون المسلم الصيني أيضًا عربيًّا، وأن يبدو المسيحيون واليهود العرب تناقضًا لفظيًّا رغم أنهم موجودون لفترة أطول بكثير من المسيحيين واليهود الأوروبيين، لأن مركز الديانتين كان في الشرق الأدنى والأوسط قبل وقت طويل من تنصير “أوروبا” واضطهادها ليهودها. وهكذا فإن الحديث عن “الغرب اليهودي المسيحي” هو في الواقع مفارقة (منطقية)، إلا أنه صار مستساغًا تلوكه الألسنة دون تفكير.
أرى أن تعبير “عدم الدقة” –في حالتنا هذه– ضعيف للغاية. ما هو الوصف المناسب لهذا الفعل: شخص يقول إنه سيطلق صاروخًا إلى القمر، ثم يسدده في السماء كيفما اتفق، لأن “النتيجة نفسها على أي حال”، ثم ينتهي به المطاف ضاربًا الشمس؟ هل يمكننا أن نطلق على هذا “عدم دقة”؟ أم علينا أن نُقِرَّ أنه “خَبْل”؟ يبدو أن الهوية الثقافية لأوروبا هذه الأيام مستمدة بشكل أساسي من المحاولات المتشنِّجَة لتمييزها عن كل ما يبدو “عربيًّا”.
تبدو الحقائق التالية تحصيل حاصل: البشر الذين يتحدثون العربية، يحبون ويحزنون، منهم يساريون ومنهم يمينيون، بعضهم مثفقون بدرجة أكبر أو أقل، منهم الفقراء ومنهم الأغنياء، لديهم مشاكل مع السياسيين الفاسدين وخدمة جمع النفايات، تمامًا مثل البشر الذين يتحدثون الإيطالية أو الألمانية. غير أنهم يمثلون الآخر: الغريب. في هذا السياق تُعتبر اللغة العربية أيضًا أكثر غرابة وصعوبة مما هي عليه في الواقع إن نظرنا إليها بموضوعية. والنتيجة هي أن مترجمي العربية يحظون –سواء اعتبرنا هذا إيجابيًّا أو سلبيًّا– بمكانة الخبراء النادرين في لغة مهمشة غريبة ومتداولة في بلدان عجائبية. وإذا وضعنا في الاعتبار أننا نتحدث عن سادس أكبر لغة في العالم، ولغة يتحدثها جيران أوروبا المباشرون، يبدو الأمر عبثيًّا إلى حد كبير فعلًا. لهذا السبب لا يزال الأدب العربي يحتل مكانة مهمشة في أوروبا. الأدب العربي يعني كتبًا لأولئك المهتمين بالمنطقة على نحو خاص، وكتب “لخبراء الشرق الأوسط” المستقبليين أو “عشاق الشرق”. وهذا ما دفعني لتأسيس تجمع 10/11 (مختبر ترويج للأدب العربي المعاصر في سوق الأدب الأوروبية) مع عدد من الزملاء العاملين في مجال النشر. وننشد المساهمة من خلاله في زيادة تدفق الأفكار والسرديّات والنصوص والمعلومات عبر هذا البحر “الصغير” المتوسط. ونسعى لتحقيق هذا عن طريق ترويج نصوص الكُتّاب العرب، الشُّبان والشَّابات على نحو خاص، في سوق الأدب الأوروبيّة.
كانت البداية في صيف عام 2012، عندما اكتشفت منشورات السوري عبود سعيد على فيسبوك، وبحثت عن دار نشر لها، وأخيرًا وجدت دار النشر الإلكترونية البرلينيّة العظيمة ميكروتكست (mikrotext). وهكذا صدر الكتاب الأول الناجح لعبود سعيد “أَفْهَم واحد على فيسبوك”، وتمكن بعدها من القدوم إلى ألمانيا، وأصبح من أبرز أصوات الأدب العربي الشَّابة في أوروبا.
يخالف كُتّاب تجمع 10/11 –وهم حتى الآن عبود سعيد وعساف العساف ورشا عباس– التوقعات السائدة حيال الكُتّاب العرب، لأن لكل منهم مَسْحَة بوب آرت تميّزه عن الآخر، بالإضافة إلى أنهم يكتبون عن قضايا راهنة بطريقة معاصرة مثل اللجوء والحرب واﻹحلال الطبقي Gentrification والهوس ببرلين.
أحيانًا أتمنى وجود جيش من المترجمين يترجمون كل شيء طوال الوقت من الألمانية إلى العربية ومن العربية إلى الألمانية، لكي نعوّض كل ما فاتنا ونتحدث معًا مثل أصدقاء قُدامى لم يروا بعضهم منذ قرون، حتى لو كان ذلك سيكلفني مَوْرِد رزقي.