تيم باركس: الترجمة في الظلام

تيم باركس: الترجمة في الظلام


الترجمة في الظلام (30 نوفمبر 2011)

مقال لتيم باركس الروائي والمترجم البريطاني المقيم في إيطاليا

ترجمة: أنس عبد الله – هالة صلاح – سحر ناصر – إسلام حسين – رنيم محمد – إسراء أمان – سلسبيل صلاح – محمد ناصر الشعراوي

ترجم هذا المقال عن موقع نيويورك ريفيو أوف بوكس ضمن أعمال الدورة الرابعة والسادسة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) 2019 – 2020

الترجمة خاصة بموقع ترجمان وسيلاس اﻹسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

*

«يجب أن نؤمن بترجمة الشعر، إذا كنّا نؤمن بالأدب العالمي»، هذا ما قيل على لسان توماس ترانسترومر، الشاعر السويدي الفائز بجائزة نوبل للآداب في عام 2011، واقتبسه روبرت روبيرتسون، أحد مترجمي شعر ترانسترومر للإنجليزية، في مقال كتبه في العام نفسه. يستمر روبيرتسون في وصف الصعوبات التي يواجهها من يحاول ترجمة أعمال ترانسترومر للإنجليزية في القبض على صوته الثري واستحضاره البارع للطبيعة السويدية، خاصة إذا كنت لا تعرف اللغة السويدية جيدًا.

لقد ترجم روبرت لويل، كما يخبرنا روبيرتسون، شعر ترانسترومر بمجرد «معرفة سطحية» باللغة، ويذكر روبيرتسون بدوره أن حبيبته السويدية أملت عليه ترجمة حرفية سطر بسطر للإنجليزية، ثم قرأت عليه الشعر باللغة السويدية لمنحه «إيقاعاته»، والتي ساعدته على صياغة ترجمة «متحررة نسبيًا» باللغة الإنجليزية.

هذا النهج في الترجمة ليس غريبًا بين الشعراء (فقد قدم و.هـ.أودن ترجماته لملاحم الآيسلنديين Icelandic sagas بشكل مشابه للغاية)، لكن على الرغم من ذلك يشعر روبيرتسون بالحاجة إلى استدعاء مرجعيات متنوعة للتصديق على عملية ترجمة تفترض أن للشعر معنى حرفيًا دلاليًا، وهو ما يمكن نقله ببساطة منفصلًا عن المقاطع الشعرية والنبرة والموسيقى؛ التي لا يستطيع سوى الشاعر نفسه إعادة بناءها بحسه المناسب. ومن ثم:

«كتب روبرت لويل في مقدمة كتابه (مُحاكاة Imitations 1962): يقول بوريس باسترناك -شاعر وروائي ومترجم أدبي روسي- إن المترجم المعول عليه عادة ينقل المعنى الحرفي، لكنه يفتقد النبرة، ولا شك أن النبرة في الشعر هي كل شيء بالطبع»

يظهر هنا أن كلمة (بالطبع) تتغاضى عن حقيقة أن النبرة الشعرية دائمًا ما تكون وثيقة الصلة بالمحتوى: إذا تغيّر المحتوى، بينما ظل الإلقاء والمقام اللغوي واحدًا، فإن النبرة بدورها حتمًا ستتحول. نلاحظ من انتقاص «المترجم المعول عليه عادة» أن هناك مترجمين يعرفون لغات أجنبية، لكنهم لا يفهمون شعرها.

ذُكر حينها أن تي إس إليوت حذر لويل ألا يقدم قصائد كتابه «مُحاكاة» بصفتها «مجرد ترجمات» لترانسترومر وآخرين:

«إذا استخدمت كلمة ترجمة في العنوان الفرعي، ستجذب كل النقاد التافهين الموسوسين الذين يبتهجون بإيجاد ما يبدو لهم ترجمة خاطئة، وتستحضر كل الجلبة التي أثيرت حول ترجمة إزرا باوند للشاعر اللاتيني بروبرتيوس».

يؤدي الجمع بين «موسوسين» و«تافهين» هنا نفس الوظيفة التي أداها لويل وباسترناك باستخدام كلمة «يُعول عليه عادةً»: هناك من يتدخل في الترجمة دون فهمها. 

يستشهد روبرتسون أيضًا بالشاعر البريطاني جيمي مكندريك الذي يشعر أنه «محق بالكامل» في قوله إن «معرفة المترجم باللغة بشكل عام أهم من معرفته العامة باللغات». يا لغموض هذه الملاحظة! هل يعني هذا أن المترجم يملك نوعًا واحدًا من المعرفة عن الطريقة التي تترك بها اللغة أثرها عمومًا، ومعرفة أخرى بخبايا اللغات المختلفة التي يتقنها، وأن المعرفة الأولى «أهم» من الثانية؟ لو كانت هذه هي الحالة، إذن فلأي درجة هي أهم؟ وأليس الاثنين بالأحرى مترابطين ويكمل كل منهما الآخر؟

فحوى حُجة مكندريك، بعيدًا عن هذا التعقيد، واضحة كفاية: نحن نُنحي جانبًا الاعتراض الذي يقول إن المعرفة العميقة بلغة أجنبية ما قد يكون مطلوبًا لترجمة شعرها، أو نثرها في هذه الحالة، وهكذا نمهد الطريق أمام ترجمة شخص خبير فيما يهمنا: لغتنا الخاصة.

إنني لا أرغب فعلًا في تصيد الأخطاء، فأنا أستمتع بترجمات لويل وروبيرستون لترانسترومر، وترجمة باوند لبروبرتيوس. وأنا سعيد بالعمل الذي قدمه هؤلاء المترجمين، إذ منحونا العديد من القصائد الجيدة خلال مسيرتهم. وبصفتي كاتب قدم أيضًا عددًا من الترجمات ربما يُتوقع مني اهتمامًا قويًا بفكرة أن المهارة التي أملكها في اللغة الإنجليزية تميزني عن المترجم «الذي يُعول عليه عادةً». أيًا كان، وبغض النظر عن مدى رغبتنا في تسمية عمل كهذا بالترجمة أو المحاكاة، يبدو أن لدينا هنا مشكلة حقيقية تُعالج باندفاع غير ملائم.

دعونا نتذكر أكثر تجاربنا كثافة في قراءة الشعر بلغتنا الأم، أشعار «إليوت» و«باوند» خلال المراهقة ربما، «فورست» و«والاس ستيفين»، «أودن» و«جوفري هيل»، ثم العودة إليها بعد سنوات عدة، لنكتشف كم المعاني التي تنطوي في تلك الأشعار لم نكن قد أدركناها «تخيلناها» من قبل. نلتقط أصداء من القراءات الأدبية التي مررنا بها منذ ذلك الحين، نكتشف الطريقة التي يحوّل الشعر بها معنى هذه كلمة وتلك قليلًا، وكيف يتلاعب ذلك بالنغمة والشعور ككل. ثم دعونا نتذكر أيضًا بعض أفضل نصوص النقد الشعري التي قرأناها، سواء كانت «لويليام إيمبسون» أو «كريستوفر ريكس» أو« إليوت» نفسه، وقدرتهم على إثراء السياقات اللغوية والأدبية بطريقة تمنح النص معاني أعمق، أو إظهار علاقات كانت مبهمة داخل قصيدة فصارت بمجرد ذكرها أوضح فجأة وأغنت تجربتنا بها.

الآن تخيل أن لديك صديقًا شاعرًا يرغب في ترجمة تلك الأشعار، وقدمت ترجمة حرفية لأشعارهم بلغتك الثانية، ربما تقرأ عليه «الرباعيات الأربع» بصوت مرتفع، سطرًا بعد سطر، ليتعرف على الإيقاع. لكن هل يسمع صديقنا المترجم بمعرفته السطحية للغتنا الأم نفس ما نسمعه نحن عند القراءة بصوت مرتفع؟ قد يلم بالمحاكاة الصوتية، لكن إيقاع الكلمات في لغة قد يكون مختلفًا عنه في لغة أخرى، فضلًا عن أصداء النصوص اﻷخرى، أو ببساطة مخارج الحروف في لغتنا الخاصة. خلال أعوامي الثلاثين في إيطاليا، لطالما حدثني أصدقائي المستجدون عن جمال اللغة الإيطالية وتناغمها، لكن هكذا هي الإيطالية في أذن اعتادت صوتيات اللغة الإنجليزية. بالنسبة لآذان الإيطاليين، ولي اﻵن، أغلب ما يقال بالإيطالية مزعج، حيث المرء يسمع اللغة بشكل مختلف بمجرد إتقانها.

لماذا يقدم لنا المترجمون المعول عليهم عادة نصوص نشعر أنها جامدة أو باهتة مما يدعو الشعراء إلى التدخل؟ خلال تدريسي للترجمة، كثيرًا ما أتعامل مع طلاب يكتبون جيدًا بلغتهم الأم، إلا إنهم لا يترجمون لتلك اللغة بطلاقة، مما يؤدي بنا إلى مفارقة في صميم الترجمة وهي أن النص الذي يلهمنا هو أيضًا ما يعيقنا عن التعبير. تدفعنا لغتنا نحو اتجاه محدد، لكن النص الذي نحاول تقديره يقول شيئًا مختلفًا، أو يقول نفس الشيء بطريقة شديدة الاختلاف. علينا أن نعود إلى ما عناه «بول كيلين» بملاحظته أن الشعر هو التفرد الأزلي للغة حين يئس من ترجمة بودلير. من ثم، فإن المعرفة العميقة باللغة التي يترجم منها الطالب، هي عادة ما تحفز الطلاب على صياغة ترجمة أفضل، إتقان اللغة الأصلية هو ما يتيح للمترجم الانفصال عن البناء اللغوي الرسمي وإيجاد تعبير أنسب للسياق الذي يتعلم شعوره، في تلك الحالة، ومع ذلك فكل ابتعاد عن الترجمة الجامدة هو مستلهم من تجربة حميمية ومباشرة مع النص الأصلي.

كل هذا يؤدي بنا إلى استنتاج واضح، على الرغم من أهمية التعبير و الإبداع باللغة الأم للمرء، إلا إن الخبرة العميقة باللغة التي نترجم منها هو فقط ما يمكننا من تحسين ترجماتنا. هذا وقد كدنا نبلغ صلب الموضوع بإمكاننا الآن أن نطرح سؤالًا شيقًا حقًا، لماذا لا يرغب كتاب بهذا الذكاء مثل إليوت، لويل، باسترناك، روبنسون في وضع هذا السؤال بعين الإعتبار. هل لأنه بالعودة إلى ترانسترومر، «علينا أن نؤمن بترجمة الشعر، لو أردنا أن نؤمن بالأدب العالمي»، من العبث أن نحلل ما نفعله عن كثب، لو كنا قد قررنا النتيجة بالفعل.

لماذا كان ملحًا أن نؤمن بالأدب العالمي إذن؟ في النهاية، يبدو أنه من الصعب أن نتخيل بوجود تعبير أدبي أو تجربة عصية علينا، أن التجربة الفردية ليست مشروطة بلغتها الخاصة، أن الثقافة والأدب يمكن التعبير عنهما في كل أنواع الآداب، وأن الشاعر المتفرد كذلك يمكن تقديره في كل أنحاء العالم. تعتمد «المسابقات الأدبية الدولية»، والتي كثرت مؤخرًا، على هذه الفرضية. تتطلب روح العصر -من أجل أن نؤمن بالتبادل الثقافي العالمي- أن نطلع على كل شئ قد يُغني الثقافة المحلية أو العالمية ويعمقها. لا بد من تحطيم كل القيود.

لا مشكلة لدي مع هذا الطموح، أو أيًا من عمليات الترجمة (المحاكاة) المحفزة للاهتمام التي تشجعها، اعتراضي الوحيد أنه من غير الحكمة أن نغفل حقيقة التعقيد، والاختلاف الهائل بين الثقافات، وأن هذا الإيمان بالأدب العالمي قد يخلق وضعًا نتقوقع فيه ونتقيد به، مدخلين إليه أعمالًا أخرى من خلال مجرد عملية مماثلة، مغالطين أنفسنا؛ بقول أنه ما دام يبدو جذابًا في لغتنا، فإن ذلك يعني أننا قريبون من تجربة النص الأجنبي. يقول ترانستومر:

«خلال سنوات الشعر الأولى المندفعة، استوعبت كل الشعر على أنه سويدي. إليوت وتراكل وإيلوار، جميعهم كانوا كتابًا سويديين، ذلك لأنني تعرفت عليهم من خلال ترجمات قاصرة لكن لا تقدر بثمن.»

جرب ذلك، التقط نسخة من الكتاب المعنون على نحو خاطئ «جحيم دانتي» الذي يقدم عشرين شاعرًا شهيرًا، قلة منهم لديهم أكثر من مجرد معرفة سطحية بالإيطالية، يترجم كل منهم مقطعًا شعريًا من «الجحيم». حصيلة ذلك حتمًا شديدة التفاوت، إذ نشعر في كل حالة أن صوت الشاعر الإيطالي يُسحب إلى هذا الاتجاه أو ذاك، وفقًا لتصورات كل مترجم عن هذا الصوت. أحيانًا، نحن أمام جحيم هيني، أحيانا جحيم كارولين فورشِه، أحيانا جحيم ويليام ميروين، لكننا أبدًا، لا نرى جحيم دانتي.

ثم عُد إلى ترجمة 1939 النثرية التي قام بها الباحث جون سنكلير. ستجد هنا تجانسًا وتدفقًا، وقلة في البهرجة، وائتلافًا للألفاظ مع المعاني يمتد على مدى عشرات الصفحات، مما يعطي تجربة مختلفة إلى حد بعيد. وختامًا، ألق نظرة على المراجعة التي أجراها روبرت وجين هولاندر على ترجمة سنكلير في سنة 2002. صحح روبرت هولاندر، الباحث المتخصص في دانتي، أخطاء سنكلير القليلة. وفيما تُقدّر زوجته جين، وهي شاعرة، صياغة سنكلير بدرجة كبيرة، فقد قامت ببعض التعديلات، تحت عين زوجها المدققة، ممكّنةً الترجمة من الانسياب في نظم شعري غير مقفى. لا تزال المسافة بعيدة عن قراءة دانتي في الأصل الإيطالي، لكننا الآن، نشعر أن لدينا مقاربة جادة للغاية، وقراءة جيدة.

اترك تعليقاً