تيم باركس: المكتسب في الترجمة

تيم باركس: المكتسب في الترجمة


المكتسب في الترجمة (9 ديسمبر 2017)

مقال لتيم باركس الروائي والمترجم البريطاني المقيم في إيطاليا

ترجمة: سهير رجب الشرقاوي – ياسمين أكرم – حسين الحاج – سلمى الديب – صفية محمود – أحمد إسماعيل – منار عبد العزيز – سارة إبراهيم

ترجم هذا المقال عن نيويورك ريفيو أوف بوكس ضمن أعمال الدورة الرابعة من مختبر الترجمة بمعهد القاهرة للعلوم والآداب الحرة بالإسكندرية (سيلاس الإسكندرية) 2019 

الترجمة خاصة بموقع ترجمان وسيلاس اﻹسكندرية

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم

*


«لكن أليس اﻷمر بأكمله مجرد رؤية ذاتية؟»

يتمثل المشهد في مباراة ترجمية أو هكذا يسمونها. يترجم مترجمان نفس الفقرة القصيرة ويتناقشان حول نسختيهما من ترجمتها مع ميسر أمام جمهور من المترجمين. توحي كلمة «مباراة» بصراع عنيف ينتهي في آخر المطاف بانتصار أو هزيمة، والحقيقة أن ذلك كله يحدث بأدب جم يصل إلى درجة الاحتواء، فما من تصويت لتحديد أي نسخة هي الفائزة، ولن يتعرض أي منهما للإحراج.

ورغم ذلك فإن مسألة تفضيل اختيار عن آخر لا تكف أن تظهر مرارًا وتكرارًا. ننظر اﻵن إلى الفرق بين كلمتي «مجموعة» و«لواء» في جملتي «قائد مجموعة من الفرسان المخلصين» و«قائد لواء من الرجال الأوفياء»، وكلاهما ترجمة لنفس الجملة الإيطالية: comandante a una schiera di fedeli. 

برر المترجم الذي اختار «فرسان» اختياره بأن «القائد» هنا هو الملك آرثر، ولذلك فإن «المخلصين» الذين يأمرهم هنا هم فرسان الدائرة المستديرة بكل تأكيد، أما المترجم الذي استخدم «لواء» فسر أن الكلمة الإيطالية «schiera» وفقًا لرؤيته تعني رجال منتظمين في شكل أو ترتيب معين.

إذن ماذا عن «أوفياء» و«مخلصين»؟ تتجانس كلمتي لواء وأوفياء، بينما غالبا ما ترتبط كلمة «مخلصين» مع «فرسان»، وربما تستمد أيضًا انطباعًا مساعدًا من سجعها مع كلمة «ملكيين».

يمضي وقتٌ طويل ونحن نتناقش في هذا الأمر، إلى أن يعترِض أحد الحضور قائلًا: «أليس الأمرُ بأكملِه رؤية ذاتية؟»، ولسانِ حاله أنه لا جدوى من هذه المناقشة. هذا ما أقرته العبارة اللاتينية «De gustibus non est disputandum» التي تعني «لا داعي للجِدال عندما يتعلق الأمر بالأذواق». ففي حالِ احترام المعنى الحرفي للنص لا أكثر ولا أقل، يُصبِح أي اختيار للترجمة أو أي أسلوب أو استعمالٍ أدبي للنص الأصلي خاضِعًا للذوق الشخصي ليس إلا، سواءً أعجبك هذا الاختيار أم لا.

كانت هذه الحُجة مقنعة، لكن هل صحيح أن تفضيلاتنا الجمالية ذاتية؟ هذا التصور هو ما نحتاج إلى تسليط الضوء عليه. هل يتماشى هذا التصور مع تجاربنا مع الكتب والمسرح والأفلام والموسيقى؟ لا نكون عشوائيين طوال الوقت، فالأطفال الصغار يُظهِرون ميلًا لنوعٍ مُحدد من القصص ونوعٍ مُعين في سردها، إلى أن يملون منها ويكبرون عليها، ذلك، أو أن أسلوب سردها يصبح أبسط من اللازم بالنسبة إليهم فيما بعد. أما المراهقون فقد يستمتعون بالروايات الرومانسية أو روايات الخيال العلمي، وبعد ذلك يدفعهم تراكم خبراتهم للبحث في مكانٍ آخر.

إذن، لدينا حقيقتين واضحتين هنا، أولهما، إن أي عنصر اختيار محدود، فالطفل لا حيلة له في أن يحب القصة الفلانية، ليضعها جانبًا في نهاية الأمر. عندما تقرأ لك أمك كتاب «حيث توجد الأشياء البرية»، إما أن تتعلق به فورًا، أو لا تتعلق به. إذن، الأمر ببساطة هو أن المرء إما أن يحب شيئًا أو لا يحبه. فأنت لا تملك اختيار أن تلقى قصيدة «ليس لدى الأرض أي شيء أكثر عدلًا لإظهاره» حفاوة لديك، إن لم تسترع انتباهك. وإن أحببت رواية «خمسون ظلًا من الرمادي»، فأنت تحبها، حتى وإن كان من الأنسب لك أن تنكر ذلك.

لكن أيضًا من الصحيح أنه عندما تتبدل التفضيلات، فإن ذلك يحدث لسبب ما، إن لم يكن كنتيجة عن التفكير فيها. عندما ينضج المرء، فهو يضع سياقًا وخبرة أكبر وعالم أكبر إلى ما يقرأه وهذا «الاتساع» يغير ذوقه. قد نقول حتى أن تلك التجربة الجديدة تغير المرء وتغير الكتاب معه. عند هذه النقطة، سيستخف المرء غالبًا بالتفضيلات اﻷولى أو يحفظها بإعزاز.

من منطلق هذه الملاحظة، يعتبر ما ذكرناه خطوة صغيرة نحو فكرة التعليم والتعلم؛ إنني أنمي، عامدًا ومنتظمًا، خبرتي ومعرفتي كي ألقى ثراءً أكبر فيما أقراه. تتضح ملائمة هذا التوجه أثناء قراءة شيء ما بلغة ثانية مثلًا: ربما أعلم ما يكفي من الفرنسية كي أقرأ رواية «صباح الخير أيها الحزن» Bonjour Tristesse لفرنسوا ساجان لكن ليس بما يكفي لتقدير بروست، أو عند قراءة أشياء من حقب أخرى: ألتقط «ملكة الجن» The Faerie Queene ﻹدموند سبنسر وأعي فورًا أن التجربة ستصبح أقل إحباطًا إذا علمت أكثر عن فترتها وأسلوب كتابتها. ليست استجاباتنا وتفضيلاتنا عشوائية، إنها تعتمد على ما نضفيه على ما نقرأه أو نشاهده.

هل هذا يعني أننا يمكن أن نقول إن هذا الاختيار أفضل من ذلك؟ أو أن هذه القراءة النقدية متفوقة على أخرى؟ دعنا نعود إلى مباراة الترجمة. المقطع الذي نطلع عليه هو الافتتاحية، ثلاث فقرات قصيرة، من «جزيرة أرتورو» L’isola di Arturo ﻹلسا مورانتى التي كانت من أفضل الكتب مبيعًا عندما نشرت في عام 1957. وأول ما يلفت انتباه القارئ أسلوب شديد الرقي ومدعوم بالجمل الاعتراضية والثانوية والفوران البلاغي، يوضع على لسان شخص يتذكر ماضيه عندما كان طفلاً، وفيما يلي ترجمة حرفية جريئة للفقرة الأولى كي تعطينا فكرة عن النص:

كان اسمي أول الأشياء التي تباهيت بها. لقد تعلمت للتو (كان هو، على ما يبدو لي، أول من أبلغني بذلك) أي أن أرتورو نجم: أسرع وألمع ضوء في كوكبة بوتس، في السماء الشمالية! وهذا الاسم حمله ملك من العصور القديمة، وقائد جماعة من الرجال المخلصين: هؤلاء الرجال كانوا أبطالًا، مثل ملكهم الذي كان بطلًا هو الآخر، والذي عاملهم بمساواة كأنهم إخوته.

ربما تكون قراءة «هاكلبري فين» أو «الحارس في حقل الشوفان» أو «ديفيد كوبرفيلد» بمثابة استعادة ذكريات الطفولة. كيف تتعامل مع ذلك؟ يشعر أحد المترجمين أن تحدي المباراة يقتضي أن تُترجم القطعة بمعزل عن باقي الرواية، لذلك لم يبحث في الرواية أو يقرأ أكثر. يجد المترجم أن النمط في اللغة الإيطالية مغرق في التفاصيل في بعض الأجزاء، وهو يرى أنه يحتاج إلى تحجيم، لأن اللغة الإنجليزية لا تتضمن ذلك.

وتقول المترجمة الأخرى إنها شعرت بتشويش في البداية بسبب هذا الأسلوب المبالغ فيه، لذلك بحثت عن نسخة من الرواية وقرأتها. فماذا وجدت؟ يحكي الراوي عن طفولته التي عاشها وحيدًا على جزيرة بروسيدا قبالة خليج نابولي. حيث ماتت أمه أثناء ولادته وكان أبوه (الذي يتضح أنه المشار إليه بكلمة «هو» في الجملة الثانية) غائبًا في معظم الأوقات. ترعرع أرتورو في رعاية زوج من الفلاحين المسنين في بيت يطلقون عليه «دار الأوغاد» وبصحبة كلب مبهج. كان المنزل مليء بالأدب الكلاسيكي والأساطير والأبطال والحروب الملحمية، فأصبحت هذه وسيلة الطفل الوحيدة للتعلم. فكان يقضي أيامه في عالم خيالي ينسج صورًا للملاحم الكبرى، وبجانبه كلبه، في جنته المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مشتاق لعودة أبيه الذي يشبه «يوليسيس» في كونه مسافرًا دائمًا. لكن للأسف، يكتشف أرتورو مع مرور الوقت أن حقيقة «منزل الأوغاد» وغياب أبيه محبط ومحزن. ينتهي الكتاب بتخليه عن أرض طفولته وانطلاقه إلى قارة البلوغ.

تتماشى طبيعة أسلوبها المعبر مع الخيال الممتع، الطموحات، المواقف، المفاخرات الصبيانية التي لا تكاد تتضخم حتى تنكمش وتحبط فيما بعد. بالنظر في الترجمتين نجد أن أحد المتنافسين قد تحدث عن أرتور بصفته «فخور باسمي» بينما أبقى الآخر على سردية المفاخرة. كما تحدث أحدهما عن أن أرتورو «اسم لنجم»، بينما التزم الآخر بالنص الأصلي وقال« أرتور نجم». وعمد أحدهما إلى تبسيط واختصار الفقرة بينما لم يفعل الآخر ذلك. ربما لن نتمكن من تحديد أي هاتين الترجمتين المقتضبتين الأفضل بصورة مطلقة باعتبارهما فقرات باللغة الإنجليزية، لكن يمكننا أن نقدر أيًا منهما أكثر اتساقًا مع وتيرة الكتاب التي تنتقل من الوهم الآخذ في التضخم إلى انحسار هذا الوهم. وإذا ما أردنا ترجمة كتاب بسبب إعجابنا بنصه الأصلي فربما سيكون علينا استخدام هذا الأسلوب. ولحسن الحظ، فإن مورانتي عمدت إلى تنبيهنا إلي الوتيرة الشعورية التي ستؤول إليها القصة في فقرة مجملة بالصفحة الأولى. وهكذا تبدأ الفقرة الثانية، ولمرة أخرى في ترجمة حرفية لا غير:

لسوء الحظ، فقد آلت بي الأمور إلى أن أعرف أن أرتورو، ملك بريطانيا الشهير، لم يكن شخصية تاريخية مؤكدة، لكن مجرد أسطورة، ولذلك فقد آثرت أن أوجه اهتمامي بعيدًا عنه نحو ملوك آخرين حقيقيين (ففي نظري فإن الشخصيات الأسطورية أمور طفولية).

إنها بالضبط عملية التعلُّم التي ذكرناها من قبل. لقد غيّر اكتشاف مشكلة صحة الوقائع التاريخية تقدير أرتورو لاسمه، لكن عاجلًا لم يسقط تباهي كاميلوت إلا بإصدار الصبي انعكاس فيه تعظيم لذاته:

لكن مع ذلك، كان هناك سبب آخر كاف –بالنسبة لي- لإعطاء أهمية رمزية لاسم أرتورو: وهو تقدير هذا الاسم لي (حتى بدون معرفة –كما أظن- رموزه التي تشير إلى ألقاب رسمية) كان –كما اكتشفت- اسم أمي. والتي بلم تكن في الحقيقة سوى فتاة أمية، ولكنها كانت أعظم من ملكة بالنسبة لي.

بالتأكيد، نادرًا ما يُستخدم فعل «يقدَّر» بديلًا عن اسم المفعول منه «مُقدّر»، ولن يُستخدم في الترجمة النهائية، لكنني وضعته في هذه النسخة الحرفية لأشير فقط إلى أي مدى يبالغ الراوي. شعر أحد المترجمين الاثنين بأن هذه الجملة الطويلة (وعلى الرغم من الحقبة الزمنية- يكرر استخدام أداة الوصل «من، وفي حد ذاته..») مبالغ فيها للغاية، ورأي أن الصياغة حماسية زائدة عن الحد وغير مباشرة بصورة جنونية. في الحقيقة، قسمهما المترجمان الاثنان إلى ثلاثة أقسام قياسية، كما لو أن هذا يدل على أن الحماسة المفرطة هي المطلوبة. تبدأ فقرة مورانتي القادمة مرة أخرى برذاذ من الماء البارد. إذا تُرجمت حرفيًا يكون لدينا التالي: في الواقع، لم أعرف عنها غير القليل، لا شيء تقريبًا: منذ وفاتها، وهي لم تبلغ الثامنة عشر( من العمر، حتى اللحظة التي وُلدت فيها، أنا، ابنها الأول).

هل سبق وفعلت أي شيء للتصدي للاعتراض الذي يواجه اختيارات المترجم لكونها «ذاتية فقط»، وأنها أبعد ما يكون عن المعالجة؟ إذا لجأنا إلى الترجمة المنشورة (1959؛ بقلم إيزابيل كويجلي)، نلاحظ أن فقراتنا الثلاث تم قصرها على فقرتين؛ يتم الآن تضمين خيبة أمل الصبي من كون الملك آرثر مجرد أسطورة في الفقرة الأولى، في حين أن الثانية تبدأ بحقيقة أن والدته هي من اختارت الاسم. في الوقت نفسه، يتحول التحرير في هذه الترجمة جذريًا لشيء دارج وصبياني بشكل ملموس:

منذ عصور مضت كان هناك ملك يدعى آرثر.. لطالما اعتقدت أن الأساطير كانت أمور تخص الأطفال.. نوع من الجذب الرمزي.

هانحن هنا لم نحصل على المبالغة البلاغية لهذا التباهي الصبياني، ولا على تحديد الفقرة الذي يؤكد على انكماشها، فهذه الملاحظة ليست ذاتية أكثر من ذاتية قولنا بأن «اللواء» كلمة تستخدم عادة في سياق اليونان القديمة وليس بريطانيا القديمة. يبدو من الصواب إذن أننا على الرغم من هذه الملاحظات قد نفضل إصدار كويجلي، فلا وجود لأي سبب يمكنه أن يجعلنا نحب أو نكره شيئًا ما، لكن مع المعرفة التي لدينا الآن بالأصل، قد نتساءل أيضًا كيف يمكن أن تكون نبرة كويجلي المختلفة والأكثر ثراءً صنعت لتتناسب مع القصة التي سيحكيها. فكما هو الحال، وبمجرد الإشارة إلى ذلك، قد تبدأ في الشعور بأن فرسان آرثر ليسوا اﻷسبارطيون الثلاثمائة.

ترجمة الأدب ليست دائمًا أصعب من ترجمة النصوص الأخرى مثل الكتيبات السياحية والأدلة التقنية والفنية وعُقود البيع وغيرها، لكن ما يميز الترجمة الأدبية عن غيرها هو الآتي: أنها ليست مقصورة على مهمة نقل المعلومات أو الإقناع فحسب، لكن وفرة المعاني المحتملة والانفتاح على التأويل اللغوي، بالإضافة إلى الدعوة لقياس ما وردت تفاصيله خلال تجربتنا ونقده وهي جميعًا عوامل محفزة. كلما أعطينا الترجمة الأدبية من ذواتنا، منحت لنا، ما ينتج عنه اختلاف القراءات اللاحقة عن الأولى بطريقة يصعب وصفها عن وصف ترجمة المنتج أو ترجمة دليل المدينة.

يقرأ المترجمون الكتب لنا. إذا وصلتنا أعمال تولستوي المكتوبة بالروسية فهذا يعني أن قارئًا شغوفًا لا بد أنه نقل إلينا أعمال تولستوي بلغتنا. كلما كان الكتاب غنيًا وثريًا، منحنا القارئ تجارب كثيرة. ما نأمله من مترجمينا -سواء كان هو أو هي- المعرفة قدر الإمكان بالمراجع الثقافية والأنماط المعجمية والموقع الجغرافي واللحظة التاريخية الخاصة بكل نص ينهض بترجمته، باﻹضافة أيضًا إلى المعرفة بلغتنا ومنابعها المختلفة. بعيدًا عن أن الترجمة «مجرد رؤية شخصية»، فإن هذه الاختلافات ستكون دالة على تجارب القراء المختلفة للكتاب المترجم، نظرًا لأن ما من أحد منا يراكم التجربة نفسها. حتى رغم ذلك فإنه من المرجح أن ينتج مترجمان خبيران نسختين مختلفتين من نفس العمل، لكن إذا أردنا نسخة مترجمة من أعمال تولستوي، وليس مجرد ترجمة تبدو جيدة، إذا قرأناها جملة بجملة، فمن الأفضل توكيل هذه المهمة الإبداعية إلى قراء يستطيعون جلب أكثر ما يمكن نقله عن الروسية وليس أقل عن العمل.

اترك تعليقاً