مثل بينوكيو؛ عثرتُ على جنِّيتي

مثل بينوكيو؛ عثرتُ على جنِّيتي

كدتُ ألجأ إلى أسوأ ما قد يلجأ إليه مترجم: التخمين

مثل بينوكيو؛ عثرتُ على جنِّيتي

مقال إسلام الزنكي

نشر في مجلة الثقافة الجديدة عدد سبتمبر ٢٠٢٣


الأنف الطويل: علامةٌ على الكذب، أو كنايةٌ عن أنَّ صاحبه يقحم نفسه (يحشر مناخيره) في شئون الآخرين؛ أهذا هو بينوكيو الدميَّةُ الخشبية الإيطالية التي ابتكرها وصاغ حكايتها كارلو كلودي، أم هذا هو المترجم؟ كاذبٌ في عين القارئ، ومتطفلٌ في عين كاتب العمل الأصلي (حتى استعمال كلمة أصلي قد يشي بأنَّ المترجم مزوِّر). تبدأ العلاقة بين كاتب العمل وبين المترجم وقد توسَّطها النص، ثم تنتهي بأن يجد الكاتبُ المترجمَ أمامه، وجهًا لوجهٍ، وقد خلَّف النص وراء ظهره. أمَّا المترجم فهو لا يرى في نفسه إلا كما يرى نفسَه بينوكيو، تلك الدمية الخشبية التي تهرب من كل التزامٍ ولا تحلم إلا بالمغامرة واللعب، وتتمنى لو تحوَّلت إلى صبيٍ من لحمٍ ودم؛ صبيٍ لا يطولُ أنفه إذا كذب: مثل بينوكيو، غاية المترجم وعين مناهُ ومنتهى آماله أن يكون كذبه مستترًا، طيب.. وإذا كُشِف؟ أن يكون مقبولًا.

يحدثنا الناقد السينمائي نيكولاس باربر في مقاله «بينوكيو: أكثر حكاية مرعبة كُتبت للأطفال»* عن أحد التأويلات التي ترى أنَّ «بينوكيو صورة عن المسيح، لأن اسم النجار جيبيتو، تصغير لاسم جوزيبي أو يوسف، وأن ألوان الجنية الزرقاء تتسق مع اللون الأزرق المرتبط تقليديًّا بمريم العذراء»، ويتردد هذا التأويل في «فيلم غييرمو ديل تورو، إذ نجد الدمية في أحد المشاهد وهي تحدق بالصليب وتفكّر: “إنه مصنوع من الخشب أيضًا، لماذا يحبه الجميع، ولا يحبونني أنا؟”. وقد يكون للمترجم أن يسأل: لماذا يحبونها (الترجمة) ولا يحبونني؟

يعثُر بينوكيو، لدى خروجه إلى العالم، بأصدقاء السوء والمحتالين الذين يستغلون تعطُّشه إلى الحياة والمغامرة، وسذاجته، ليورطوه في مآزق مهلِكة لا ينقذه منها إلا رغبة المؤلف في أن يبقى بينوكيو حيًّا إلى النهاية، هذه الرغبة التي اتخذت شكلَ «الجنِّيَة الزرقاء»، ملاك بينوكيو الحارس على مدار قصته. أما أنا فقد كان عقلي في رأسي حين قررتُ أن أترجم مقال الناقد الإنجليزي روبرت مكروم عن رواية «شكوى بورتنوي» للروائي الأمريكي الشهير «فيليب روث»، ولكنَّه «نظري: بدأ عِلَّتي» جعلني أشرع في ترجمة المقال وقد علمت أنَّ الرواية لم تترجم إلى العربية. حين عرفت موضوعها أدركت سبب الإحجام عن ترجمتها: شابٌ يهودي أمريكيٌّ من أسرةٍ محافظة يمتهن المحاماة والعادة السريَّة! كان مدمنًا للعادة السريَّة حد أن تكون مهنةً له. وما الرواية كلها إلا شكوى بورتنوي في عيادة الطبيب النفسي من حياته وتزمُّت أسرته.

كنت قبلها قد ترجمت مقالًا للناقد نفسه عن رواية «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، ورغبةً مني في التعرُّف على عالمها الديستوبي قرأتها كلها قبل أن أشرع في ترجمة المقال، وليس كذلك الحال مع «شكوى بورتنوي»، التي لم يسعفني الوقت لقراءتها، هذا إلى أنها لم تترجم إلى العربية. وحدث ما كنت أخشاه؛ صادفتُ في المقال جملةً مقتبسة من الرواية عزَّ عليَّ فهمها، وشرعت أبحث عن معناها ملتمسًا في هذا أن يكون أحدهم قد كتب ملخصًا للرواية أو سردًا موجزًا لأحداثها. ولمَّا لم أجد، لجأت إلى موقع الجود ريدز طارحًا سؤالًا عن معنى الجملة. نسيت أن أقول أنَّ ما زاد الطين بلَّة، وجعل جهلي بين عينيَّ، أنها كانت الجملة الأخيرة في الرواية، وفيها من المفارقة ما سيقلب الرواية رأسًا على عقب، إذ يقول روث منهيًا روايته على لسان الطبيب النفسي: «now vee may perhaps to begin?».

بعد أن يئست من أن يجيبني أحدهم، كدتُ ألجأ إلى أسوأ ما قد يلجأ إليه مترجم: التخمين، والتخمين فجرٌ كاذب، إذ يتصوَّر المترجم أن نورًا قد ينبعث من رأسه بدلًا من البحث عن مصدرٍ للإضاءة، وهو ما قد يشوبه عثرةٌ في قدم كرسي، أو ارتطام بحائط، لكنه لا يبخلُ أبدًا بمكافأته: التعلُّم. وإذا بي بعد أسبوعٍ أجدُ قارئةً على الجود ريدز وقد أجابت عن سؤالي بما معناه أنَّ السطر الأخير في الرواية -مفاجأة مدويَّة- لأنه يعني أنها من أولها إلى آخرها –عدا هذا السطر- مونولوج داخلي طويل في نَفس پورتنوي! من يتحدث الآن هو طبيبه النفسي (الذي لا تخفى على القارئ ركاكة لغته الإنجليزية، وربما كان هذا الطبيب محاكاةً ساخرة لسيغموند فرويد). تظنُّ منذ بدء الرواية أنَّ پورتنوي كان يشكو لطبيبه، ثم تُفاجأ بالطبيب في السطر الأخير يطلب من مريضه أن يحدثه عن نفسه وأن يبوح بشكواه! ما يعني أن النسخة الثانية من پورتنوي ستشرع بالحديث بعد أن انتهت النسخة الأولى/الداخلية من حديثها!

أتنفس، أقفز فرحًا، أطلق وعودًا كتلك التي يطلقها بينوكيو في حضرة الجنية الزرقاء/ملاكه الحارس بعد نجاته من كل كارثة بأن يستقيم ويطيع الكبار وألا يحيد عن طريقه وأن يذهب إلى المدرسة، وحتى تكتمل المفارقة اكتشفت أن من أجابت عن سؤالي هي فتاة إيطالية؛ جنيَّة زرقاء أخرى. بل وسلَّكت مسلك جِنِّيَّة بينوكيو التي كانت تتجلَّى له في عدة أشكال، فمرة تكون شابة ومرة تكون عجوزًا – فانتقلت من كونها قارئة لتتقمَّص دور المترجم. ولأنني محظوظ، فالمفارقات لن تنتهي، إذ كان اسم الفتاة «بياتريتشي». بياتريتشي؟ حبيبة دانتي التي أرسلت إليه الشاعر فرجيل كي يجتاز به أخطار الجحيم، ويؤمِّن مساره إلى الفردوس! ألم تفعل صاحبتي هذا؟

وعلى هذا، وخلافًا لبينوكيو، فإنني لم أعِدْ جِنِّيتي بالاستقامة وترك التسكع والإقلاع عن اللعب وخوض المغامرات: أأترك الترجمة! لكن هذا لم يمنعني من أن أردد الجملة التي انسلخ بها بينوكيو من ذاته الخشبية: «كم كنتُ مضحكًا عندما كنتُ دميةً! وكم أنا مسرورٌ الآن، لأنني تحوَّلتُ إلى ولدٍ قويم!».


* نُشر المقال في موقع بي بي سي العربي بتاريخ 22 ديسمبر 2022.

اترك تعليقاً