إليوت كولا: التراجمة ونقاط التفتيش (2-2)

إليوت كولا: التراجمة ونقاط التفتيش (2-2)

التراجمة ونقاط التفتيش (القسم الثاني)

لقراءة القسم الأول

مقال لإليوت كولا

إليوت كولا أكاديمي مختص بأدب وثقافة الشرق الأوسط، ويعمل أستاذًا مساعدًا بقسم الدراسات العربية والإسلامية بجامعة جورج تاون.

جرت الترجمة ضمن أعمال مختبر سيلاس الخامس للترجمة بالقاهرة.

ترجمة:

إسلام صلاح الدين

أغاريد محمود

أمير زكي

تقى زيدان

حسين الحاج

محمد سيد علي

مصطفى طه

نهال خليل

نهال الهجين

هدى ذكري

ياسمين المرجوشي

الترجمة خاصة بترجمان

يحتفظ المترجمون بحقهم في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمتهم دون إذن منهم


لوحة من قصة علي بابا عن wikimedia

مقترحات اشتقاقية

يشير المصطلح العربي للترجمة إلى أنه من الملائم، عند التطرق إلى الترجمة، أن نفكر في حيوات معيشة لا في تصنيفات سيميائية مجردة. من أجل أن نُقَدِّر ذلك، نحتاج في البداية إلى أن نقر بوجود جانب غريب في الدلالات اللفظية للترجمة. فإن كلمة «ترانسليت» translate الإنجليزية على سبيل المثال تنطوي على استكشاف لغات أخرى، فإننا لا يمكننا تحليل هذا اللفظ بدون الإحالة إلى اللغة اللاتينية. ينطبق الأمر ذاته على اللفظ العربي «ترجمة» وهكذا نجد أن اللفظين المعبرين عن الترجمة في اللغتين الإنجليزية والعربية هما ذاتهما لفظان مستعاران.

إذا نظرنا للشكل المفاهيمي الأساسي للترجمة كما أتى إلينا من التراث الغربي سنجد أن «ترانسبورت» Transport، أي النقل، تعني نقل الشيء عبر مسافة. وقد وصف (فريدرك شليرماخر) الترجمة وصفًا شهيرًا بأنها شكل من أشكال النقل الحركي، بحيث يُجلب من خلالها القارئ إلى المؤلف الأجنبي أو يُجلب المؤلف الأجنبي إلى القارئ، وإن كان (شليرماخر) كغيره من المفكرين الرومانسيين، يفضل بوضوح الشكل الأول من النقل على الأخير.[46] يصل الأمر إلى أننا عندما نسمع الجذرين اللاتينيين «ترانس»، بمعني عبر، و«ليتاس» بمعنى محمول، في لفظ «ترانسليشن» Translation، فإننا نتخيل مهمة الترجمة كعملية جلب شيء أو حمله من المصدر إلى الهدف، أو بشكل أبسط هي الحركة ذهابًا وإيابًا بين المصدر والهدف. ولقد تطور استخدام الحركة كمجاز يعبر عن الترجمة إلى درجة أن البعض يصف الترجمة بأنها عملية هجرة لانهائية وبكونها حالة دائمة من الحركة. وعلى هذا النحو، تكون الترجمة مجازًا مميزًا يرمز إلى الحداثة والكوزموبوليتانية وحالة النفي.

حسب المعنى التقليدي، أن نترجم هو أن نحول لفظًا أو جملة أونصًا من لغة إلى أخرى، والترجمة الأمينة هي الترجمة التي تعثر على طريقة مماثلة للتعبير عن شيء ما، على الرغم من أن التكافؤ التام يظل، كما يعرف جميعنا خير معرفة، مجرد تصور مثالي.[47] في العصر الكلاسيكي عندما كانت نظريات الترجمة السائدة تركز على البراجماتية وإمكانية التواصل، كانت الفحوى تُبدَّى على الحرفية. أما في العصر الحديث، أصبح العكس هو الأكثر صحة، حيث صار يُنظر إلى اللغة باعتبارها مكونًا للواقع وليس مجرد انعكاسًا له. وهكذا فإن المنظرين خلال القرنين الأخيرين غالبًا ما كانوا يقدرون الاختلافات ما بين نص أصلي وترجمته أكثر من أوجه التشابه بينهما، لما تعلمنا إياه الاختلافات عن اللغة ذاتها.[48] فالترجمات الآن تعد أعمالًا مستقلة بذاتها ولا يمكن تقييم جدارتها فقط فيما يخص علاقتها بالنص الأصلي. وبناءً على ذلك، فإن المترجم هو فنان يخلق عمله عن طريق تجميع الشظايا.

تحمل الترجمة، اصطلاحًا، المعنى الأوسع للتفسير، سواء كان يحدث هذا ما بين لغات أو مستويات لغوية أو متحدثين. وبالفعل فإن قبل استخدام كلمة «ترجمة» بزمن طويل كان النقاش حول التنقل بين الألسنة يستخدم لفظ التفسير. تعني الترجمة بهذا المنطق إعادة الصياغة أو الشرح أو إعادة قول الشيء ولكن بطريقة أخرى بحيث يمكن فهمه بطريقة أفضل. عند الحديث عن التفسير ما بين وسائط أو أدوات جمالية، فإن التركيز يكون على الجانب الأدائي والشرطي من العمل، عندما تُحول أغنية إلى لوحة على سبيل المثال أو أن تعزف على العود مقطوعة موسيقية كتبت للعزف على التشيلو. إن التفسير (Interpretation) كمجاز وهو الذي أتى إلينا أيضًا من التراث الغربي، يشير أصله إلى نشر الشيء بين المصدر والهدف، أو قد يكون أشبه بقرض بين الكاتب والجمهور، بين النص والسياق. أن تفسر هو أن تقوم بدور الوسيط أو الموزع، أو الشخص الذي يتدخل ما بين هذا وذاك. فالمترجم الفوري (Interpreter) كمترجم هو في الأساس متدخل، غير أنه يتدخل بحيث يخلق قدرًا أكبر من المعنى وليس العكس.

تعني «الترجمة» أشياءً كثيرة، يتعلق جميعها بإنتاج المعنى من خلال التبادل بين اللغات أو داخلها (بما في ذلك اللهجات والمستويات اللغوية)، حتى وإن كانت أهداف هذا التبادل وأساليبه ومعاييره قد تبدلت على مر القرون. وعلى الرغم من أن ترجمة اللفظ العربي «ترجمة» إلى «ترانسليشن» Translation هي ترجمة صحيحة ومتعارف عليها، فإن هذا الاختيار لا ينقل أوجه الاختلاف بين اللفظين لا من حيث تاريخهما ولا من حيث النطاق الدلالي لكل منهما. أولًا، لم يصبح لفظ «ترجمة» اللفظ العربي السائد للتعبير عن الترجمة سوي خلال المائة عام الماضية. ففي فترات سابقة على ذلك، كان من المعتاد استخدام كلمات مثل «نَقَل» و«حَوَّل» بهذا المعنى. كما تربط المعاجم ما بين الاسم «ترجمة» والفعل «ترجم» باسم آخر هو «تُرجمان» أو «تَرجمان» وهو مترجم القول، أو من ينقل الحديث من لغة إلى أخرى. ومن هنا، دخلت نظائر الجذر العربي «ت رج م» معاجم اللغات الإسلامية الأخرى مثل الفارسية والتركية والأردية. وبشكل أوسع، يشير لفظ «ترجمان» إلى معنى المرشد، كما في مجموعة قصائد ابن عربي «ترجمان الأشواق» والتي ترشد القارئ عبر درجات ومستويات شتى في الحب الصوفي للإله. وبالإشارة بشكل خاص لإمكانية الترجمة بين اللغات الشعائرية والمدنية، قد نتوقف عند ترجمة للأبيات الشهيرة التالية من القصيدة الحادية عشرة من ديوان ابن عربي:

لقد صار قلبى قابلًا كل صورة فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ

أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه، فالحب ديني وإيماني[49]

بيد أن لفظ «ترجمة» يحمل دلالة لا يشير التراث اللاتيني إليها، وهي نوع من الكتابة عن الشخصيات البارزة مثل الزعماء الدينيين والشخصيات السياسية والفقهاء. تعني الترجمة سيرة شخص ما أكثر من كونها تفسيرًا لغويًا.[50] وفي الحقبة الكلاسيكية، كان هذا اللون من الكتابة يستخدم ضمير الغائب، والأهم من ذلك، هو أنه لم يحقق صراحةً في حياة الشخص الخاصة. ولكنه كان يركز على أفعال وأقوال الشخص مع التركيز بشكل خاص على كيفية كشف ذلك عن السمات الأخلاقية للشخص موضوع الترجمة، وهو الأمر الذي لم يكن ليظهره سوى حكم زملائه وطلابه ومجتمعه. إذن، فإن السمات الأخلاقية للمصادر تؤدي وظيفة بالغة الأهمية في كتابة الترجمات. سعت الترجمة من خلال إبراز أساليب جمع المصادر أن تقدم أمثلة لحيوات فاضلة (أو على الأقل مؤثرة) يمكن التحقق منها كما شهد عليها أشخاص كانوا أنفسهم يتمتعون بمصداقية أخلاقية. بعبارة أخرى، تدلل الترجمة، من بين الأنواع المختلفة لكتابة السيرة الذاتية باللغة العربية، على صحتها من خلال تقاليد معروفة وواضحة، وهي تحري الأمانة تجاه الشخص موضوع الكتابة وتجاه القواعد التي تحكم الأدلة التاريخية، بالإضافة إلى إدراك أن ما يحدد القيمة الأخلاقية لشخص ما في النهاية هو حكم مجتمعه عليه لا حكمه الشخصي على نفسه. ونتيجة لذلك فعندما ظهرت كتابة السيرة الذاتية في التراث الأدبي العربي، كانت مرتبطة بمعايير الحكم الأخلاقي هذه.[51]

لسبب ما، صار هذا المعنى لـ «الترجمة» –بمعنى تقييم حياة أخلاقية وتفسيرها– غامضًا نسبيًا في العصر الحديث. بينما في الحقبة الكلاسيكية، أشارت كلمة «مُتَرجِم» (الفاعل من الكلمة) إلى كاتب السيرة الذاتية، وعند لحظة معينة خلال العصر الاستعماري، صارت تعني بوجه عام «مترجمًا» وفقًا للفهم المعاصر. بينما في العصر الكلاسيكي كذلك، أشارت كلمة «مُتَرجَم» (اسم المفعول من الكلمة) في الأساس إلى شخص حياته خضعت لهذا النوع من الكتابة، وفي الاستخدام المعاصر، لا تشير إلا للشيء الذي تمت ترجمته. هذه النقلة المعجمية الحديثة ينبغي أن تستدعي كلمات أحد المعلقين الكلاسيكيين على «مقامات الحريري» التي، وفقًا للمستشرق الموسوعي إدوارد لين، أكدت على أن كلمة «ُمترجَم» تعني «مشوَّشًا».[52]

بالحديث عن التشوش، يوجد خلاف يخص أصل الكلمة نفسها. يقول لين إن معجم الأزهري «تهذيب اللغة» يذهب إلى أن حرف «ت» في كلمة «ترجمة» ليس أصلًا في الكلمة، وإنما إضافة إلى الجذر «ر ج م»[53]. وكما هو معروف، فكلمة «رجم» تعني، في الأساس، إلقاء الحجارة بطريقة معينة لإصابة من يتلقاها أو قتله. وحمل الشيطان اسم «الرجيم» تحديدًا لأنه يُلعن بإلقاء الحجارة عليه. تعبير «لسان يرجم» يوحي باللسان الطاهر (أو غزير الكلام)، ولكن تعبير «رجم بالغيب»، (أو بالظن)، يعني السعي وراء ما هو مفقود، أو وراء فكرة غير معبر عنها، بمعنى آخر يعني التوقع أو التخمين. هنا نعود إلى التفسير من باب جانبي غير متوقع: «الترجمة» يمكن أن تشير إلى تحويل شيء إلى لغة إما ليس موجودًا في اللغة أو غير مفهوم. ولكن دارسي اللغات السامية، يخبروننا أن كملة «ترجمة» مستعارة من الكلمة الآرامية (أو السريانية) «ترجم»، والتي تعني التفسير. «ترجميم» هو مجموع المراجع التي تحتوي ترجمات وتفسيرات وإعادة صياغات للكتاب المقدس العبري في الفترة التالية للنفي البابلي، وذلك في الأساس في بلاد ما بين النهرين.[54]

هل من الدال أن مفردتي الترجمة العربية والإنجليزية (Translation) مستعارتين من لغات أخرى؟ في هذه الاستعارة، وللحفاظ على صورة الكلمة في أصلها، يوجد معنى لـ «رفض» ممارسة فعل الترجمة بتعريفه الأضيق، هذا ما يبدو عليه الأمر. في الحالتين، المفردة نفسها الساعية لتوطين كلمة أجنبية تشير إلى رفضها فعل ذلك. بالطبع يوجد ما هو أكثر من ذلك. في الحالتين، المفردات التي تدور حول مفاهيم الترجمة والترانسليشن تتطور حول نقطة مرجعية ثابتة ومشتركة تمضي عبر اللغات. تصير الترجمة، موقعًا معجميًا لقيمة مشتركة، لمكافئ تقريبي، بين لغات غير متكافئة.

كما يبدو، الترجمة والترانسليشن مرتبطان بما هو أكثر من حقيقة أن كل منهما يمثل عدم الرغبة (أو عدم القدرة) في كل من الإنجليزية والعربية لترجمة الكلمات الأجنبية المرتبطة بالترجمة. في الحقيقة، ليس من الواضح تمامًا إذا كانت «الترجمة» في ذاتها أجنبية تمامًا على اللغة الإنجليزية. وفقًا لقاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية، كانت الكلمة مصدرًا ثريًا للكلمات الإنجليزية الصحيحة، والكلمات ذات النسب المشترك دخلت اللغات ليس أقل من ثلاث مرات منذ الحملة الصليبية الأخيرة:

1. في حوالي عام 1300، تسللت كلمة «ترجمان» لأول مرة وعبرت الحدود الأنجلوساكسونية، وذلك خلف قناع كلمة «دراجومان» dragoman (وجمعها بالإنجليزية dragomans أو dragomen) وتنويعاتها: دراجرمان druggerman، دروجويمان drogueman، دروجيمان drogeman، دراج-مان drug-man، وغيرها. تحيل هذه الكلمة إلى المترجم الفوري أو المترجم التحريري، أو المرشد الذي يعمل على وجه الخصوص في البلاد المتحدثة بالعربية أو التركية أو الفارسية. جاءت كلمة «دراجومان» من الفرنسية القديمة، والتنويعات الأسبانية – دراجومان dragoman، دراجومانون dragomanno – للكلمة اللاتينية التي تعود إلى العصر الوسيط dragumannus. في نهاية القرن السابع عشر، أشار دريدن إلى «دراجرمان من السماء») في مسرحية «دون سباستيان». بعد ذلك، وفي القرن التاسع عشر، تحدث سيدني سميث عن «دروجويمان متفاخر». كما تشير تلك الإحالات، يمكن لهذه الإمكانيات الهوموفونية لتلك الاستعارة، أن تكون أدت لتصاعد الفهم للترجمة باعتبارها فارماكون، أي سم أو ترياق، أو جوهر متبدل الوعي. بهذه الإشارة، يعتبر المترجمون دافعون للأمام.

2. عام 1485. كانت لحظة التسلل الثانية متخفية خلف قناع كلمة تراشمان truchman، وتنويعاتها: تورشيمان tourcheman، ترانشمين trunchmen، ترونشمان trounchman، تروشيمان troocheman، ترودجيمان، trudgeman، تراش-مان truch-man، وغيرها. في هذه المرة، كانت تعني المترجم الفوري بمعناه العام، وكانت متخذة من ترجمة لاتينية تعود إلى العصر الوسيط، والتي وصلت إلى الأسبانية في لفظ تروجامان trujaman. في الفرنسية، ظهرت الكلمة لأول مرة في شكل «تروشيمان» trucheman، رغم أن الهجاء التقليدي لها الآن هو تروشيمون truchement. استخدم وليام كاكستون، الذي أنشأ أول مطبعة للنشر في إنجلترا، الكلمة في عمله «باريس وفيينا» الذي يعود إلى عام 1485: «Thenne sayd parys vnderstondeth he mouryshe and they sayd nay but… yf he wold speke to hym they should find tourchemen ynough.» (الترجمة من الإنجليزية: «بعدها سألهم باريس: «هل يفهم المورية؟» فأجابوا: «لا، ولكن تحدث إليه وسوف يترجم بكفاءة»). من الكلمات المتعلقة: المترجمة الفورية الأنثى يقال عنها تراشوومان truchwman، وجني التراش truch spirit هو جني يؤدي دور الرسول.

3. عام 1587. في المرة الثالثة التي استعارت فيها الإنجليزية الكلمة، تجاوزت الكلمة العربية نحو الجذر الآرامي المتخذة منه: ترجم (انظر السابق). «ترجُم» تعتبر فعلًا أيضًا، تدل على أداء الترجمة الفورية أو إيجاز النصوص المقدسة على أسلوب كتب «الترجميم»، وللتأكيد، فكلمة «ترجم» تعني الشرح.

تاريخ الحياة الثانية لكلمة «ترجمة» بالإنجليزية تؤكد أنه كان من السهل على المترجمين أن يستعيروا الكلمات ويستبدلونها من لغات أخرى، خاصة حين يكون المحتوى متعلقًا بترجمة كلمات تخص اللغة والترجمة نفسها. ما الذي نتعلمه من هذا فيما يخص الناس الذين جعلوا كلمة «ترجمة» رائجة في اللغة الإنجليزية؟ إنها تشير إلى شيئين على الأقل: إما أنهم كسالى، أو مشاغبين، ومرروا عملة أجنبية على أنها عملة شرعية. رغم ذلك فالحقيقة هي أنهم فعلوا ما يفعله المترجمون على الدوام. هذا يدخلنا في صلب الموضوع: حين نتحدث عن الترجمة، نتحدث عن المترجمين وحياتهم. تذكرنا كلمة «ترجمة» بهذا، مثلما تشدد الاستعارات إلى الإنجليزية إلى مظاهر عبور الحدود والعودة منها، تلك الحدود المفروضة على حياة الدراجومان.

التُّرْجُمان

لعلّ صيت المترجمين السيئ هو ما جعل واقعة الخلط بين كلمتي المترجم والخائن في اللغة الإيطالية: (traduttore, traditore) تهيمن على جميع النقاشات حول الترجمة والمترجمين. وهناك الكثير من أنواع المترجمين؛ فمنهم: الشارحون، والناقلون حرفياً، ومنخفضو الأجر، وغير المُقدَّرين، ومن يعيشون في خوف، والعاملون في الأمم المتحدة، ومن يختلقون أشياءً، وغيرهم. فلنستعرض بإسهاب 3 أنواع من المترجمين -المتعاونين، والمارقين، والأخفياء- الذي يثير كل واحدٍ منهم مجموعة خاصة من الشواغل حول الأمانة والخيانة.

لا توجد إمبراطورية في التاريخ لم تعتمد على خدمات المترجمين[55]. إلى جانب أنَّ هذا النوع من التعاون كان محوريًا للكولونيالية الحديثة في العالم العربي؛ وتحديدًا في مصر والجزائر خلال القرن التاسع عشر، والعراق في القرن الواحد وعشرين. ومثلما يحب القوميّون تذكيرنا، التعاون ما هو إلا تعبير آخر للخيانة والغدر، ليس فقط للغات أو النصوص، بل للمجتمعات أيضًا. لكن هل يجب علينا حقًا أن نترك القول الفصل في هذه المسألة لهم؟ طوَّر عالما الأنثروبولوجيا طلال أسد وديفيد سكوت مفهوم «التجنيد» لوصف نطاق الخيارات الضيق المتاح لمن يقفون عند الجهة المتلقية من المشاريع الإمبريالية الغربية.[56] ومثلما يوضح أسد وسكوت، لغة «المُختَارة» أبسط من أن تتمكن من وصف السياق الذي طرحه مجيء الحداثة الكولونيالية، حيث يصبح المُستعمَرون أمام خيار قبول حسابات جديدة للقوة وإما الموت في سبيل مقاومتها. ومن يعملون لصالح شركات كولونيالية يتخذون قراراتهم تحت تأثير إكراه شديد. غير أنَّ تعاونهم بالغ الأهمية؛ فبدونه تتداعى إمبراطوريات. ولهذا، لطالما احتلت التراجم والترجمة مركز العالم العربي في عصر الكولونيالية وفترة ما بعد الكولونيالية.

لكن هناك فترات في التاريخ لم يكن يُنظَر فيها للمترجمين على أنهم خونة فحسب، بل خطيرون أيضًا. فخلال القرن التاسع عشر مثلًا، عيَّن كثيرٌ من الأوروبيين تَراجِمة الإمبراطورية العثمانية، ليس لإلمامهم باللغة والأعراف المحلية فحسب، بل لأنهم كانوا أيضًا مدججين بالسلاح واشتُهِروا بمعرفتهم كيف يستعرضون سلطتهم في المواقف الخطرة. ويظهر في الرسوم التوضيحية والصور التي تعود لتلك الفترة، التراجمة/المرشدين وهم متشحون بأحزمة حمل الأسلحة ومدجَّجون بالبنادق والمسدسات والسكاكين بينما يعرضون خدماتهم في أسواق سراييفو وإسطنبول ودمشق والقدس والقاهرة.

وإذا صحت التقارير القنصلية وسجلات الرحلات التي تعود لتلك الفترة، فإنَّ هذا الجيل من المترجمين المأجورين لم يبث الرعب في قلوب قطاع الطرق والسكان الجامحين فحسب، بل في قلوب الأوروبيين الذي كانوا يستأجرونهم أيضًا. وبالنظر إلى أحد الأمثلة التي تعود لبدايات القرن التاسع عشر، شكى القنصل الفرنسي في الإسكندرية، برناردينو دروفيتي، بمرارة من تُّرجُمان جامح يُدعى جوزيف (أو يوسف)[57]. وكان دروفيتي ينتمي لمنطقة بيدمونت، شمال غربي إيطاليا، وواحدًا من الشخصيات التي أغدقها الاستعمار الفرنسي لإيطاليا بكرمه. وكانت المشكلة تكمن في أنه أصبح واضحًا أنَّ يوسف أثناء عمله وسيطًا بين الحكومة الفرنسية ومصر، تلاعب بكلا الجانبين بقصد التربح. ومن المرجح أن طرد ترجمان مثل جوزيف لم يكن أمرًا يسيرًا؛ إذ إلى جانب علاقاته بشخصيات ذات نفوذ كبير في البلد بحكم عمله وسيطًا، اشتهر عنه أيضًا تسويته النزاعات بقسوة. وقد كانت هذه المرحلة الزمنية عسيرة. إذ سعت فرنسا المضطربة خلالها لإعادة بناء العلاقات مع الدول التي فشلت لتوها في استعمارها. وكانت مصر نفسها في حالة اضطراب ما يُعزى إلى حدٍ كبير للكارثة الدموية المتمثلة في تعرضها لعنف الثورة الفرنسية. وعلى أية حال، لم يعد متاحًا أمام البعثة الفرنسية، وعلى رأسها البيدمونتي دروفيتي، أي خيار سوى توظيف وسطاء على دراية بالأعراف المحلية. وفي ظل تلك الظروف، تمتع المترجمون الأحرار مثل يوسف بميزة فريدة لبعض الوقت. وبالتأكيد، لم يكن هو المترجم الوحيد الذي صدرت من القناصل الأوروبيين شكاوى بشأنه. لكن هذه المعادلة أوشكت على التغير للأبد؛ فبحلول عام 1806، عُيِّن المواطن الفرنسي والمستشرق أسلين دي شيرفيل ترجمانًا رسميًا في القنصلية الفرنسية في الإسكندرية. ولم تمر فترة طويلة حتى سارت قوى أوروبية أخرى على هذا النهج فيما يتعلق ببعثاتها الدبلوماسية؛ إذ عيَّنت مواطنين لها مدربين في وظائف الترجمة اعتقادًا أنهم هم الوحيدون الجديرون بالثقة بما يكفي لشغل هذه الوظيفة.

من أين جاء المترجمون من أمثال جوزيف/يوسف؟ بعض التراجمة ولدوا لعائلات تعمل في هذه المهنة. ففي البلاط الملكي العثماني، أنجبت بعض العائلات الأرمنية واليهودية واليونانية الكثير من المترجمين الرسميين. ومن ثم، فليس من قبيل المصادفة أنَّ جماعة المترجمين الرسميين في القرن التاسع عشر كانت تنتمي بأكملها تقريبًا لهذه الأقليات الدينية والإثنية. ونادرًا ما وُجِد سجل أوروبي يصف لقاءً مع الباب العالي أو محمد علي أو غيرهما من حكام القرن التاسع عشر دون أن يأتي على ذكر حضور مترجمين شاميين مهرة خلال اللقاء.

وهناك تراجمة آخرون أوجدوا أنفسهم ولم يصنعهم أحد، فقد تخلف مئاتٌ من المجندين الجمهوريين الفرنسيين الذين انفصلوا عن الجيش في مصر وأسلموا، وتزوجوا فيها، وتعلموا العربية والتركية. وبدأ قلة منهم بعد أن خدموا في الجيوش المصرية والعثمانية يعرضون خدمات الترجمة الفورية في المحاكم، أو للجيوش الجديدة أو الزوار اﻷوروبيين. نجد شهادة 1830 جوفاني فيناتي، وهو إيطالي من فيرارا، وثيقة الصلة بالموضوع[58]. حاول جيوفاني الهرب مرات عديدة من الجيش الفرنسي الذي جنَّده. وأخيرًا، بينما كان يخدم على الساحل الدلماسي، عبر جيوفاني الخطوط العثمانية وسلَّم نفسه إلى الباشا المحلي. وبعد أن أسلم، هرب من البلقان إلى مصر، حيث خدم في جيش محمد علي في عدد من الحملات العسكرية. وبعدما فرغ من هذا العمل في 1810، انتهى به اﻷمر في خدمة الرحالة اﻷوروبيين -من بينهم جوفاني بلزوني، بيدمونتي آخر يعيد تقديم نفسه في مصر- الذي كافأه على معرفته باللغات والعادات المحلية والجغرافيا، ثم جوفاني فيناتي عاد إلى إنجلترا حيث أقام مع راعيه اﻷخير، وليام جون بانكس. يروي جيوفاني فيناتي قصة تبدل هوياته من فلاح إيطالي إلى جندي فرنسي إلى مرتزق مصري وتحوله من المسيحية إلى اﻹسلام وعودته إلى المسيحية مجددًا. من الناحية التاريخية، لم يكن للمرتدين اﻷوربيين -الذين اكتسبوا هذه الصفة بتنكرهم للمسيحية كي يعيشوا مسلمين- سوى قلة من الطرق ليسلكوها: إما القرصنة، أو الارتزاق، أو الترجمة بالطبع. وتُظهِر قصة جوفاني الطريقة التي تتشابك بها هذه المهن المختلفة. ومن المناسب أن نقول إننا لا نملك النص اﻹيطالي اﻷصلي لشهادة جوفاني، بل ترجمته اﻹنجليزية فقط، والتي يقر بانكس أنها ذات صياغة معدلة.

ما الذي جعل مرتدون أوروبيون ومواطنون عثمانيون ليسوا من المسلمين مؤهلين للهيمنة على الوساطة بين أوروبا اﻹستعمارية المُتوَسِّعة واﻹمبراطورية العثمانية المُتقَلِصة؟ كان لدى كل مجموعة منهم مصالح مستقلة سمحت لهم أن يُنظَر إليهم بصفتهم محايدين. إذ افترضت النخب اﻷوروبية والعثمانية على السواء أن اليونانيين واليهود واﻷرمنيين لديهم تطلعات تختلف عن مصالح كلٍ من العثمانيين المسلمين واﻷوروبيين المسيحيين. لم يخشَ أحد من هؤلاء المترجمين أو يحمل ضدهم ضغينة؛ ليس ﻷن اﻵخرين نظروا إليهم باعتبارهم يعملون لدى اﻷعداء، بل ﻷنهم لم يخفوا حقيقة أنهم يعملون لمصلحتهم الشخصية. وهنا نصل إلى قلب المشكلة التي يطرحها المترجمون، وما يضرب الخوف في قلوب أولئك الذين عليهم أن يعتمدوا على خدماتهم خلال اﻷزمنة المشحونة، إن رعب معرفة أن ما من شيء يدعى الوساطة المحايدة، وهو معرفة أن العميل الذي يقف بينك وبين المصدر لديه أجندة ربما تكون مختلفة عن أجندتك. أضف إلى هذا القلق، قلقًا آخر أثارته معرفة أن المترجم يعمل من أجل الحصول على أجر وأنه لديه مصلحة مهنية في التأكد من أن جميع اﻷطراف المعنية لا يمكنها الاستغناء عن خدماته. وبكلمات أخرى، فعلى الرغم من أنه يتلقى أجره مقابل مساعدة الناس على التواصل، فهو لديه مصلحة مباشرة في التأكد أنه لا يمكن للأطراف المختلفة التواصل بدونه.

وعندما يأتي اﻷمر للكتب، يختفي أكثر المترجمين شيوعًا ﻷن هناك من تسبب في إخفائه. وبهذا أشير إلى الطريقة الغامضة التي أدى بها المترجم دوره في أخبار السفر خلال الحقبة الاستعمارية وتغطية اﻷخبار المعاصرة وحتى في الكتابة اﻷكاديمية عن الشرق اﻷوسط. فعلى سبيل المثال، نادرًا ما تعلم السائحون العظام في القرن التاسع عشر التركية أو اليونانية الحديثة أو العربية. لكن، بالاعتماد على قصصهم المنشورة، قد تستطيع تخمين أنهم تحاوروا مع السكان اﻷصليين بطلاقة وبدون اللجوء إلى مترجم فوري.

لكن هذه ليست مسألة تاريخ قديم كذلك. لم يعرف الصحفيون اﻷمريكيون المقيمون في الشرق اﻷوسط لغات البلاد التي أرسلوا منها تقاريرهم – واعتبر هذا عاديًا. ونادرًا ما ذكروا المراسلون المحليون الكثر الذين اعتمدوا على مهارات ترجمتهم الفورية، إذا ذكروهم، رغم أن هذا يتغير اﻵن. بينما مسارات الحياة المهنية للصحافيين قد تفسر افتقارهم للمهارات اللغوية، ما من تفسير لحقيقة أن قلة من الباحثين الغربيين قضوا حياتهم المهنية بأكملها يدرسون الشرق اﻷوسط لكن لديهم مُعَرَّفة قليلة بلغاتها. ومرة أخرى، قد لا تلاحظ هذه الحقيقة ﻷن هذا مستتر بصورة كبيرة في أعمالهم، مثلما توجب عليهم أيضًا إخفاء اعتمادهم الكامل على ترجماتهم بلا أثر للمترجم.

وعلى النقيض، أعلن هؤلاء الرحالة والصحفيون والأكاديميون الذين لم يعرفوا لغات الشرق اﻷوسط عادة هذه الحقيقة بوضوح، وهذه طريقة برنارد لويس، أهم أكاديمي مؤيد للتدخل العسكري في العالم اﻹسلامي. كل شيء كتبه لويس يبدأ افتراضيًا بالنقاش الاشتقاقي لكلمة رئيسية أو مفهوم.[59] انتقد إدوارد سعيد برنارد لويس على جوهرانيته الاشتقاقية، الطريقة التي يختزل بها مشاهد تاريخية وثقافية معقدة في كلمات معرفة بصورة ثابتة. لكن النقطة اﻷكثر وضوحًا، كما يلاحظ سعيد، هي الطريقة التي تخدم بها ادعاء امتلاك ناصية اللغة توطيد سلطة برنارد لويس بصفته معلقًا سياسيًا وثقافيًا.

دائمًا ما شرد لويس بعيدًا كي يستعرض مهارته اللغوية -منذ كتابه اﻷول، معجم للغة السياسية العربية كلف بكتابته بينما كان يقضي خدمته في الجيش البريطاني في فلسطين في زمن الانتداب حتى كتابه اﻷحدث «من بابل إلى التراجمة»- تحديدًا كي يدل على استغراقه في اﻷصل، فلا حاجة للمترجمين بالنسبة إليه. يشدد فؤاد عجمي على نفس الموضوع بنفس القدر. في ملاحظة حول الترجمة التي تقدم قصور أحلام العرب، يتفاخر بحساسيته الشديدة بصفته متحدثًا أصيلًا يعرف دقائق العربية. ولهذا السبب، يكتب عجمي في هذه المقدمة أنه يعتمد بصورة رئيسية على نفسه في الترجمات، بينما يعترف، «إنه شيء مبتذل أن الترجمة دائمًا خائنة، وأنا حاولت أن أكون مخلصًا لنزاهة مصادري النصية والدلالية». يبدو هذا جدير بالثقة نظريًا[60]، لكن عمليًا هو شخص عاجز، ﻷنه يعتمد على الترجمة رغم عجزه عن إقرار هذه الحقيقة.[61]

لماذا يكتمون حقيقة اعتمادهم على المترجمين؟ بعض اﻹجابات الواضحة تفسر نفسها. قد يكون الاعتراف بأنهم يعتمدون على أعمال غيرهم مصدرًا للإحباط، خصوصًا بالنسبة إلى أولئك المنتسبين إلى العقيدة القائلة بأنه من اﻷفضل دائمًا أن نعتمد على اﻷصل بدلًا من مصدر ثانوي. إنه من الممكن أيضًا أن لذلك القلق علاقة مع الحساسية تجاه الدور الوسائطي غير المستقر الذي لعبه المترجمون.

لذلك، نعود إلى الضغينة -ذلك الشعور القهري الذي نتج عن علاقات اتصفت بمزيج معقد من الحميمية والاعتمادية والتنافس والثقة والخوف، من مترجم مجند إلى مترجم حر منشق -التي شعر بها كل منهم بسبب الحيرة التي فرضوها على الانقسامات الدقيقة بين الهوية والمصلحة، دون أن نغفل ذكر ادعاءات الاعتماد على الذات. المترجم الخفي هو بالتبعية التعبير اﻷنقى عن حقدنا على المترجمين -أولئك الذين تستكثر عليهم خدماتهم ﻷنها ضرورية للغاية، ﻷنها تذكرنا بحقيقة أن فهمنا مستعار من اﻵخرين.

***

في الصفحات السابقة، حاججتُ بأنَّنا إن أردنا فهم ممارسات الترجمة الحالية السائدة، التي تشير إلى أنَّ الترجمة ليست فقط وسيلةً لفهم الآخر وإنَّما للهيمنة أيضًا، ينبغي لنقاشاتنا ألَّا تقتصر على قضايا النص فقط، وأن تتضمن حيوات العاملين في الترجمة بنوعيها، الفورية والتحريرية. ورغم ذلك، فهناك أمثلةٌ كثيرة تتعلق بالنصوص فقط، توضح كيف أنَّ الترجمات -حتى الأدبية منها- يمكن أن يكون لها تأثيرٌ مُدمِّر على حيوات البشر، بدلًا من أن تساعد على فهم أفكارهم ومشاعرهم. وربما ليس هناك مثالٌ أفضل على ذلك مما كان يفعله الجنود الأمريكيون -الذين نشأوا محاطين بأفكار ديزني وهوليوود عن العالم العربي- في الأسابيع الأولى عقب انهيار النظام البعثي في العراق، إذ بدأوا يشيرون إلى اللصوص العراقيين باسم «Ali Babas» أي «علي بابا[i]». الغريب في هذا الوصف أنَّه في القصة الأصلية، يكتشف بطلها علي بابا المخبأ السري لعصابةٍ خطيرة مكونة من 40 لصًا عربيًا، فيسرقهم، ثم تنقذه خادمته مرجانة، وبهذا تصوره القصة كما لو كان ليس بلص. لكن في إعادة توظيف الجيش الأمريكي للقصة، يُنسى جميع اللصوص الآخرين على ما يبدو، ويتبقى فقط علي بابا ممثلًا لشخصية اللص[62]. يمكننا استنكار هذا التعبير الاحتلالي المبتذل الذي ابتكره الجنود الأمريكيون، الذين في الأشهر الأولى للحرب كانوا يشيرون إلى الرجال العراقيين بألفاظ «Ali Babas» و«Hajjis»، أي «حُجَّاج»، وإلى الفتيات بلفظ «Hajji Girls»[ii]. لكن لا يمكننا ألَّا نلاحظ أنَّ التعبير يمثل محاولة ترجمة بين ثقافتين مختلفتين، أُخذت فيها كلماتٌ من اللغة العربية، وأُعيد توظيفها للتواصل مع العراقيين. والجنود الذين كانوا يتحدثون بتلك الطريقة ربما لم يعبأوا بما إذا كان العراقيون المُحتلون يحبون أن يُنادَوا بتلك الأسماء، لكنَّهم كانوا يعلمون -أو يتوهمون- أنَّ تلك التعبيرات ستلقى صدًى لدى العراقيين، لعلمهم أنَّ لها أصلٌ عربي، أو هكذا كانوا يظنون. وبهذا يوضح لنا اسم «علي بابا» أمرًا شديد الأهمية عن حالة الارتباك التي عاشها الجنود الأمريكيون بينما كانوا ينفذون عملياتٍ عسكرية لفرض الأمن والنظام، وسط مدنيين لا يعلمون سوى القليل عن ثقافتهم وتاريخهم. وفي سياق هذا الجهل، ربما يكون الجنود الأمريكيون قد حظوا بالثناء على جهودهم للبحث عن أي نقاطٍ مشتركة بينهم وبين المجتمع العربي الذي يحكمونه. وبالفعل هم يستحقون الثناء، إذ سرعان ما تبنَّي العراقيون نفس التسمية في إشارتهم إلى الأمريكيين، الذين غزوا بلادهم لسرقة نفطها، بغض النظر عن أي مزاعم أخرى. وإحقاقًا للحق، لم تسرق الولايات المتحدة النفط، لكنَّها استولت عليه تحت تهديد السلاح، ثم باعته إلى شركاتٍ خاصة، لكن من يمكنه لوم العراقيين على فشلهم في ملاحظة تلك الفروق الدقيقة؟ على أية حال، أصبح «علي بابا» لبعض الوقت جزءًا أساسيًا من اللغة التي يتحدث بها العراقيون والأمريكيون إلى بعضهم عن شرعية وأهداف الاحتلال الأمريكي.

وليس من قبيل المصادفة أنَّ هذا الحوار المعاصر يستند إلى قصص «ألف ليلة وليلة»، إذ كان هذا النص في نسخته الإنجليزية -المعروفة باسم «Arabian nights»- بمثابة العمل الثقافي المرجعي الأهم المنسوب إلى العرب، والذي شكَّل فهم الأمريكيين للعالمين العربي والإسلامي. ولا يمكن لنا الحديث عن «علي بابا»، أو قصص «ألف ليلة وليلة» عمومًا، دون أن نتذكر أنَّ هذه القصص، التي جرى تداولها لسنواتٍ طويلة في العالم العربي، أصبحت لها حياةٌ جديدة خاصة في أوروبا عبر الترجمة. بدأ هذا الأمر عام 1704 مع جالان، الذي ترجم قصصًا من مخطوطةٍ منقوصة تُعرف باسم «ألف ليلة وليلة». ترجم جالان وغيره عنوان المخطوطة حرفيًا، رغم أنَّنا اليوم نفترض أنَّه كان تعبيرًا مجازيًا، يُقصَد به أنَّها ليالٍ كثيرة للغاية. وهذه المسألة، إلى جانب حقيقة أنَّ المخطوطة كانت تتضمن فقط 282 ليلةً، دفعت جالان ومن تبعوه إلى البحث عن الليالي المتبقية المفقودة البالغة 719 ليلةً. وأدى ذلك به إلى إضافة قصصٍ من تأليفه على الأرجح إلى النص، وتمريرها كأنَّها ترجماتٌ لنصٍ أصلي[63]، كما في قصص «علاء الدين والمصباح السحري»، و«علي بابا والأربعون لصًا». وبالفعل، بحسب الحجج المقنعة التي يطرحها الفيلسوف العراقي محسن مهدي، فإنَّ مشروع جالان كان مؤثرًا وناجحًا -بنصوصه الفرنسية الأصلية المُقدَّمة في صورة ترجمات، إلى جانب الترجمات الفرنسية لقصصٍ ذات أصولٍ عربية- إلى درجة أنَّه سلبنا القدرة على التمييز بين الأصل والترجمة. وبمجرد انتشار الخبر عن رغبة القراء الأوروبيين في المزيد من «الليالي العربية»، كان من السهل على باعة الكتب في العالم العربي إنتاجها. ويبدو أنَّ ريتشارد بيرتون، المترجم الإنجليزي للقصص في القرن التاسع عشر، قد وجد قصص «ألف ليلة وليلة» كاملةً، رغم أنَّه لا أحد يعلم على وجه التحديد كيف وأين وجدها. ومع الوقت، اضطربت المكانة التي كانت تحتلها النصوص العربية لقصص «ألف ليلة وليلة» في الثقافة العربية، بفعل هذه المجموعة الواسعة من القصص في أوروبا ومجازفة ترجمتها.

تلخيصًا لما سبق (أو ترجمةً له): حين يشير الجنود الأمريكيون أو المدنيون العراقيون إلى بعضهم بلفظ «علي بابا»، فهم يُعيدون تداول شخصيةٍ قديمة لا تعود أصولها إلى بغداد العباسية، وإنمَّا فرنسا في القرن الثامن عشر. ترك جالان إرثًا حيًا للعلاقات الثقافية بين العرب وأوروبا بترجماته وإبداعاته الأدبية، وهو إرثٌ أُعيد توظيفه مرارًا وتكرارًا، حتى أصبح في عام 2003 جزءًا أساسيًا من اللغة التي يتحدث بها العراقيون والأمريكيون إلى بعضهم. وهذه اللغة كما يتضح لم تساعد في تسهيل التفاهم بين الطرفين فقط، لكنَّها أيضًا أتاحت مسألة الصراع نفسها.

وهذه هي الفكرة. ربما تكون الترجمة وسيلةً للتواصل والفهم، ومن ثم التعاطف والاتفاق مع الآخر. لكنَّ هذه الأمثلة من تاريخنا الاستعماري وبعد الاستعماري وواقعنا الحالي تطرح احتماليةً أخرى؛ الترجمة لا تتعلق فقط بالكيفية التي يمكن لنا بها أن نفهم بعضنا، وإنَّما بالكيفية التي نتصارع بها أيضًا. وهي حقًا العادة اليومية التي دونها تهلك الإمبراطوريات. فنسخة جالان من «ألف ليلة وليلة» مثلًا كانت في بعض الأحيان سلاحًا، ما يشبه عبوةً ناسفة بفتيلٍ طويل للغاية. وكأي قنبلةٍ تُصنع بارتجال، فإنَّها تنفجر بصورٍ كثيرة جميعها غير مثالية أو متوقعة؛ لثلاثمائة عام، ألهم عمل جالان بعضًا من أفضل النزعات الإنسانوية الإبداعية في أوروبا، ولنفس المدة تقريبًا غذَّى محاولات نزع الإنسانية عن الآخر العربي والمسلم[64].

وجالان ما هو إلا رجلٌ واحد يعمل بالترجمة على الحدود بين الشرق والغرب. ومقابل كل جالان، هناك آخرون من أمثال جيوفاني فيناتي وبرنارد لويس وفؤاد عجمي، ناهيك عن جيوش المترجمين المجندين، الذين يحصلون على مقابل جهودهم في صورة مزيدٍ من الحظوة، أو وعودٍ بأن يصبحوا مواطنين في الجمهورية الإمبراطورية. وكثيرًا ما نتخيل الترجمة عملًا ساميًا، ولا نأخذ في اعتبارنا سوى ممارسات الترجمة على الحدود بين الثقافات، في مراكز المؤتمرات البراقة والجامعات والمتاحف. نُعجَب بالترجمة حين تُمارس في تلك الميادين، ويطيب لآذاننا أن تسمع صوت أعلام الدول وهي ترفرف سويًا مع النسيم الصافي. لكنَّ معظم مناطق تلك الحدود تميزها بدلًا من ذلك نقاط التفتيش المغبرة، حيث نلتقي الآخر بأقنعةٍ سوداء على وجوهنا، تراجمةٌ كلنا، نفعل ما يفعله التراجمة: ننظف أسلحتنا، ونتحدث، ونتواصل، ونفهم. أو ربما لا نفهم على الإطلاق.

سيطر الجيش الأمريكي على بابل عام 2003، لكن بحلول ذلك الوقت كان الموقع الأثري قد تحول معظمه إلى مقبرةٍ جماعية. إلَّا أنَّ هذا لم يمنع الأمريكيين من تصديق أسطورة البرج، وأن يحلموا بلغةٍ عالمية، والسيادة من خلال الجدارة الإقليمية (اللغوية-الثقافية). هذا الجهد هو الأخير والأكثر إبهارًا في سلسلةٍ من الجهود الاستعمارية لبناء البرج، أحيانًا كنقطة مراقبة حدودية، وأحيانًا أخرى كنقطة جمارك، وأحيانًا كحاجز تفتيش. حين تصل إلى نقطة التفتيش، أظهر وثائقك، وانظر إلى قاعة المرايا التي نعيش فيها، إلى المرايا المتقابلة التي ترى فيها صورتك عددًا لانهائيًا من المرات. تلك المرايا التي وضعها الترجمان، والتي يواجه فيها الأصل نسخته، ويقابل النص ترجمته، وتصطدم الذات بالآخر، وتُطوى صفحات الكتاب اليُمنى واليسرى على بعضها. أم أنَّ الآخر هو من يصطدم بالذات؟ هذه هي روح التاريخ الاستعماري.


[46] Friedrich Schleiermacher, “On the Different Methods of Translating,” trans. Susan Bernofsky, in The Translation Studies Reader, ed. Lawrence Venuti (New York: Routledge, 2000), 43-63. 

[47] للمزيد عن الجدالات بين الفلسفتين المثالية والبرجماتية عن الترجمة، انظر: عمل بول ريكور المتماسك والملهم: Paul Ricour, On Translation (New York: Routledge, 2006).

[48] انظر نقاشات لورانس فينوتي التقديمية للنقاشات بين القدماء والمحدثين، مع إشارة خاصة لشليرماخر وفالتر بنيامين في: Lawrence Venuti The Translation Studies Reader, 71-74

[49] الترجمة الإنجليزية هنا فيها تغيير طفيف عن الموجودة في كتاب

 The Tarjuman al-Ashwaq, a Collection ofMystical Odes by Muhyi’ddinibn al-‘Arabi, trans. and ed. Reynold A. Nicholson (London: Theosophical Publishing House, 1978), 67.

بشكل متوقع، حين أزعجت الجوانب الغزلية الرمزية رجال الدين، رأى ابن عربي أنه مجبر على كتابة تعليق، أي ترجمان للترجمان. قارن الترجمة الإنجليزية هنا بترجمة أ. سيلز الأخيرة للأبيات نفسها.

“My heart can take on/ any form:/ for gazelles a meadow,/ a cloister for monks,/ For the idols, sacred ground,/ Ka‘ba for the circling pilgrim,/ the tables of the Toráh,/ the scrolls of the Qur’án.” From A. Sells, Stations of Desire: Love Elegies from Ibn ‘Arabi and New Poems (Jerusalem: Ibis Press, 2006), 72-3.  

الأبيات الإنجليزية في متن النص:

My heart has become capable of every form: it is a pasture for gazelles and a convent for Christian monks

And a temple for idols and the pilgrim’s Ka‘ba and the tables of the Torah and the book of the Qur’an

I follow the religion of Love: whatever way Love’s camels take, that is my religion and my faith.

[50](50)  انظر: D. Gutas, et al, “Tardjama,” The Encyclopaedia of Islam (Second Edition).

[51] انظر: Interpreting the Self: Autobiography in the Arabic Literary Tradition, ed. Dwight Reynolds (Berkeley: University of California Press, 2001), 42-3.

[52] E. W. Lane, Arabic-English Lexicon, Derived from the Best and Most Copious Eastern

Sources Comprising a Very Large Collection of Words and Significations Omitted in the Kamoos

with Supplements to Its Abridged and Defective Explanations, Ample Grammatical and Critical

Comments, and Examples in Prose and Verse (London: Williams and Norgate, 1863), “t-r-j-m”,

302.

[53]  عن الجدالات المتعلقة بـ “الحروف الزائدة”، انظر:

David Larsen, alHusaynibn Ahmad ibn Khalawayh’s Names of the Lion (Seattle: Atticus/Finch, 2009), 4-5

[54]  انظر على سبيل المثال سرد برنارد لويس عن تاريخ الكلمة في كتاب:

Bernard Lewis, From Babylon to Dragomans: Interpreting the Middle East (Oxford: Oxford University Press, 2004), 19.

[55]  الدراسة الكلاسيكية لهذا الموضوع:

Vincent Rafael, Contracting Colonialism: Translation and Christian Conversion in Tagalog Society Under Early Spanish Rule (Durham: Duke Univ. Press, 1993).

[56] Talal Asad, “Conscripts of Western Civilization,” in Dialectical Anthropology: Essays in Honor of Stanley Diamond, ed. C. W. Gailey (Tallahassee: University Press of Florida, 1992; David Scott, Conscripts of Modernity: The Tragedy of Colonial Enlightenment (Durham: Duke University Press, 2004).

[57]انظر: French Foreign Ministry (Quai d’Orsay), Correspondance Consulaire et Commerciale; Alexandrie; Tomes 17-18 (1804-1812).

[58] Narrative of the Life and Adventures of Giovanni Finati, trans. and ed. William John Bankes (London: John Murray, 1830).

[59] راجع تعليقات إدوارد سعيد على منهج برنارد لويس في علم أصول الكلمات فيما يتعلق بكلمة “ثورة” وجذرها “ث ا ر” في العربية، التي يربطها لويس بـ”التحمس” و”التحريض” و”نهوض الجمل”: Orientalism (New York: Vintage, 1979), 314-5.

[60] Fouad Ajami, Dream Palace of the Arabs: A Generation’s Odyssey (New York: Vintage,

1999), xix.

[61] قارن على سبيل المثال نقاش عجمي حول المثقف المصري نصر حامد أبو زيد، المعتمد على مصادر عربية أصلية، مع الكتب الذي أخذ عجمي عنهم، في حوار أجريته مع زميلي أيمن بكر: “Silencing is at the Heart of my Case,” Middle East Report (November-December 1993), 27-29.

[62] خلال شهري مارس وأبريل عام 2003، بدأت تظهر تقارير في الصحف الأمريكية الكبرى عن أنَّ الجنود الأمريكيين فشلوا فشلًا ذريعًا في منع نهب الوزارات والمتاحف العراقية، لكن كان هناك استثناءٌ جدير بالذكر، وهو وزارة النفط، التي أمَّنتها القوات الأمريكية على الفور، ولم تسمح بنهبها أبدًا. اتُّهم الجنود الأمريكيون حينها بتشجيع نهب بعض المباني وثيقة الصلة بالنظام البعثي، ونقلت عنهم بعض المصادر أنَّهم كانوا يقولون للعراقيين الذين يحاولون نهب المتحف الوطني: “ادخلوا آل علي بابا، المتحف ملككم”. انظر:

Walter Sommerfeld, “Museen-Plünderungen in Bagdad,” Süddeutschen Zeitung 08.05.2003 (http://www.sueddeutsche.de/kultur/artikel/973/10963/print.html)

[63] انظر:

Muhsin Mahdi, “Antoine Galland and the Nights,” “Galland’s Successors,” “Four Editions: 1814-1843,” in The Thousand and One Nights (Leiden: E. J. Brill, 1995), 11-126.

[64] في النقطة الأولى، انظر:

Marina Warner, Stranger Magic: Charmed States and the Arabian Nights (Cambridge: Belknap Press, 2013).

أما في ما يتعلق بالنقطة الثانية، انظر:

Rana Kabbani, Imperial Fictions: Europe’s Myths of Orient (London: Saqi Books, 2009).


 [i] شخصية “علي بابا” الشهيرة من قصة “علي بابا والأربعون لصًا”، إحدى القصص التي أضافها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان إلى نسخته من قصص “ألف ليلة وليلة” العربية. – المترجمون

[ii] محاولةٌ منهم لتأنيث كلمة “حاج” العربية في اللغة الإنجليزية – المترجمون

اترك تعليقاً